د. نزار محمود
مدير المعهد الثقافي العربي
تمر أمتنا العربية، وإذا إرتأيت، عزيزي القارئ، شعوبنا العربية، بمرحلة إنعطاف هو الأكبر في تاريخها بعد مرحلة نشوء الإسلام بين ظهرانيها وتكلفها بحمل الرسالة إلى كافة الناس. فهويتها التي عرفت بها، وقيمها التي حرصت على الحفاظ عليها ورسالتها الحضارية ودورها الإنساني باتت مهددة من ألفها إلى يائها، كما يمكن أن يقال. ما الذي حل بهذه الأمة؟ وماهي الأسباب؟ وكيف السبيل إلى إصلاح ما أعطبه الزمان؟ إنها أسئلة أكبر من أن يعرضها ويعالجها مقال أو كتاب… إنها مسألة نفوس… وما أدراك ما نفوس الناس…!
أحاول في المقال أن أساهم بالتذكير بشئ أحسبه مهماً في هذا المقام.
تعيش الشعوب والأمم أزماناً مختلفة… نراها حرة وكريمة تارة، وتعيسة ومستلبة الإرادة تارة أخرى. هذا الواقع لا ينطبق على شعب أو أمة بعينها. فجميع الشعوب والأمم تتساوى أمام حكم مثل هذه الأزمان. وعندما نسبر غور التاريخ سنقف على الأزمان السعيدة وعلى غيرها الحزينة عند كل شعب ولدى كل أمة. فللفرس أيام وللرومان أيام…وهكذا للعرب والروس والأغريق والجرمان، وغيرهم من بني الإنسان.
إن كتب التاريخ ومواعظ المحدثين تعج بالحديث عن أسباب هذه الأزمان، فمنهم من استفاد من عبر التاريخ، ومنهم من مر على هذه الروايات مرور الكرام دون فهم أو استفهام…
هل يحدث ذلك وفق دورات طبيعية لحياة الشعوب والأمم، كما يذهب البعض، أم أن هناك من إرادات بشرية تتدخل في تقلب هذا الزمان؟ من المهم كذلك الوقوف على المعنى الحقيقي والإنساني لزهو ذلك الشعب أو تلك الأمة، بالعلاقة مع جيرانها من البشر. يحدثنا التاريخ عن أشكال وأسباب مختلفة لذلك “الزهو” تصل حد التناقض والخصام. فهذا الشعب “زها” بتطور إنساني في العلوم والآداب والقيم والفنون، وذاك شعب “زها” بطغيان وعدوان…
أن المدقق في أسباب أحوال هذه الأزمان سيقف بالتأكيد على شيء لا يمكن لمدى تطور العلوم وأسباب القوة أو الضعف أن تؤدي فعلها دونه، ألا وهو عامل “الكرامة الإنسانية” والشعور بها!!
إن أمتنا العربية تعيش اليوم زمن ضعف وهوان، وأن دورها الحضاري مهدد بالإغتصاب، كما أن هوية هذه الأمة ومساهماتها الإنسانية باتت معرضة للعبث والتشويه والأنكار. إن كرامة إنساننا العربي،وببساطة، أضحت غير مصانة وعرضة للإستلاب!
نحن العرب، كغيرنا من الشعوب والأمم، جزء من المجتمع الإنساني، لا نكبر إلا بمقدار عطائنا الإنساني، ولا نصغر إلا بمدى حاجتنا للآخرين والإتكال عليهم. ندافع عن أنفسنا كحق لنا وكواجب علينا. وهذان التؤامان: الحق والواجب، هما وجها الكرامة الإنسانية.
قد يبدو هذا الطرح للبعض، وللوهلة الأولى، خطاباً لا يمت بصلة لأسباب وعوامل القوة والضعف من علوم وتقنيات وفضائيات. ولكن دعونا نمعن النظر بالعلاقة ما بين “الشعور بالكرامة” وبين هذه الأسباب والوسائل.
تنص الكثير من الدساتير والقوانين الأساسية، سماوية أو وضعية، على صون حرية وكرامة الإنسان باعتبارها مسألة مقدسة في الحياة. والأسئلة الأساسية التي تطرح نفسها: هل يريد أو يستطيع القائمون على أحوال هذا الشعب أو تلك الأمة تطبيق ما من شأنه أن يحقق كرامة الإنسان، وكيف يفهمون ذلك ويطبقونه؟ وربما كان من المفترض أن أبدأ بطرح السؤال الأساسي التالي: هل يعي الإنسان في هذا الشعب أو تلك الأمة معنى وأهمية كرامته الذاتية ويشعر بها؟ إننا على يقين بأن احترام الإنسان لذاته في حقوقها وواجباتها، ووعيه بهذه الكرامة هو أساس الحديث عن أي تطور اجتماعي وإنساني.
عرف التاريخ الإنساني أنماطاً من أنظمة الحكم كان لكرامة رعاياها أشكال وأشكال. فمنها من تجاهلها كلياً وعبث بها، ومنهم من تحايل عليها واغتصبها، ومنهم من كان أحسن حظاً من غيره. فالنظام الحاكم الذي لا يعير أهمية لكرامة الإنسان في تعليمه وصحته ورأيه وحقوقه وحرياته الأساسية المتطورة الأخرى، لا يمكن أن يحقق لشعبه حياة أبية سعيدة.
إن للمجتمعات العربية في تنظيماتها وممثليها وأفرادها مسؤوليات كثيرة وكبيرة في حفظ هذه الكرامة الإنسانية. فمجالس تشريع القوانين والأنظمة، التي تحكم حياة ودور أفراد المجتمع العربي ومؤسساته، ومراقبة تطبيقاتها، تتحمل مسؤولية إنسانية تجاه حفظ هذه الكرامة.
وللأسرة العربية دور لا تقل خطورته في مسائل تربية أبنائها بخصوص الكرامة الإنسانية عن نظام الحكم أو المجالس التشريعية. إن تنمية شعور الأبناء بهذه الكرامة وتربيتهم عليها سيساهم في خلق أجيال لا ترضى بالهوان والخنوع وتكون مستعدة لتوفير شروط ومقومات تجاوز أسبابه. فأساليب التربية السلبية والإهمالية أوالقمعية والسلطوية التي تفضي إلى إضعاف شعور الكرامة لدى الأبناء أو ضموره جريمة إنسانية لا تغتفر. فإهمال تعليم الأطفال والتقصير في تنمية دوافعهم للتعلم والتفوق والمشاركة الفعلية أو الوجدانية مع الآخرين هو إضرار بنمو الشعور بالكرامة الإنسانية لأبنائهم دون أن يشعروا.
وفي هذا السياق تشترك المدرسة مع الأسرة في تحقيق تلك الأهداف التعليمية والتربوية التي تنعكس في كرامة هذه الأجيال، من خلال خططها وبرامجها وممارساتها المدرسية.
إن الممارسات السياسية للأحزاب العربية يجب أن تقوم على أساس صون كرامة الإنسان، سواء من خلال أهدافها أو أنظمتها الداخلية أو من خلال ممارسات قياداتها أو قراراتها وتكتيكاتها. كما أن عليها أن تحترم ذاتها وكذلك كرامة الإنسان في الأحزاب الأخرى أو كرامة أولئك الذين لا ينتمون لأي من الأحزاب. إن مثل هذا التصرف يتجلى عندما تجلس الأحزاب على سدة الحكم، ويكون لديها سلطة اتخاذ القرارات، الشرعية منها وغير الشرعية، وأسباب تطبيقها.
وتساهم مؤسسات الإعلام العربية بدور خطير في تشكيل الشعور بالكرامة الإنسانية. إن التأثيرات الهائلة التي تمارسها وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء تلعب دوراً مهماً في تشكيل شعور الكرامة لدى الإنسان العربي. فهل تساهم هذه الوسائل في تقوية هذا الشعور أم في إضعافه؟
ويترك غياب الدور المؤثر لمؤسسات المجتمع المدني في البلدان العربية، من دور عبادة ومنظمات اجتماعية وقانونية، آثاره الواضحة في ضعف أدوات ووسائل صون كرامة الإنسان في كثير من الشعوب والأمم التي تعيش تهميشاً حضارياً واستغلالاً من قبل غيرها من الشعوب والأمم.
إن القوى الخارجية، التي لا تقوم أسباب قوتها على الأسس الحضارية والإنسانية، تستغل حالة ضعف شعوب بلداننا العربية القائمة أسبابها على تفرقها وضعف شعورها بكرامتها الإنسانية، لتقوم باحتلالها والاستيلاء على مقدراتها، في حالة من الطغيان ونهب للثروات واستهانة بأبسط حقوق الإنسان.
كما إن انتشار ظواهر الفساد الحكومي والإداري والرشاوى والابتزاز، والتخاذل والبخل، وأساليب كسب العيش الرخيصة والمبتذلة، والظلم والاضطهاد الاجتماعي والسياسي، وغياب استعدادات التضحية والإيثار في سلوكيات وأعراف الناس، هي مؤشرات خطيرة على تدني شعور الكرامة الإنسانية لدى أبناء ذلك الشعب أو تلك الأمة.
أيها العرب، إننا مدعون جميعاً، شعوباً وحكومات، أحزاباً وجمعيات، لمراجعة الذات واستعادة كرامتنا الإنسانية، من خلال ما ذهبنا إليه في معنى وأهمية وأسباب خلق شعور الكرامة وتأثيرها في قوتنا أو ضعفنا، وبالتالي في دورنا واسهامنا الحضاري والإنساني. إن كرامتنا في وحدتنا وقوتنا، وأن كرامتنا في استعدادنا لنيل حرياتنا من حاكمين محليين أو أغراب، وأن كرامتنا لا تتحقق دون عدالة إنسانية في حقوقها وواجباتها تجاه الذات والآخر. علينا أن نتذكر أن خلق شعور الكرامة يبدأ في البيت ويصقل في المدرسة ويمارس في الشارع والعمل، في مجالس النواب واجتماعات الأحزاب، في سوح الدفاع عن الوطن، وعلى طاولات المفاوضات وعقد الاتفاقات.
إن جاليتنا العربية في ألمانيا مدعوة هي الأخرى لأن تنتبه إلى خطورة أن لا نسعى إلى توفير شروط كرامتها الإنسانية في حقوقها وواجباتها. علينا أن نحرص على تعليم أنفسنا وأبنائنا، وأن نسعى لنكبر في عطائنا وفضلنا، وأن نقوم سلوكياتنا التي لا ينبغي أن نفخر بها إلا بسمو قيمها وأخلاقياتها.
إننا، آباء وأمهات، جمعيات ومنظمات، سفارات وملحقيات، أحزاب وتجمعات، مطالبون بالمساهمة في صون كرامة إنساننا العربي في حقوقه وواجباته في المجتمع الألماني الذي نص قانونه الأساسي على أنه لا يجوز المساس بكرامة الإنسان.
ترى من هو المسؤول عن صون هذه الكرامة؟ أليس أول المسؤولين هو صاحبها في وعيه واستعداده لأخذ حقوقه وأداء واجباته؟! أوليس هو كذلك الحال في كرامة أي شعب أو أية أمة؟!
عزيزي القارئ، أتمنى أنني قد أصبت بالتذكير بشيء حسبته مهماً في رفع شأن إنساننا العربي، وأن لا أكون قد ضيعت وقتك في كلام لا جدوى فيه، وهنا تكمن المصيبة!!
أحدث التعليقات