د. نزار محمود
مدير المعهد الثقافي العربي في برلين
ينبغي أن تحظى مسألة ” إشكالية الاندماج والحفاظ على الهوية” للجالية العربية في ألمانيا باهتمام على الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وكذلك لدى الأطراف المتعددة ذات العلاقة من جاليات وهيئات ومؤسسات عربية وألمانية. ولكن لماذا؟
لم يعد من الصحيح التزام الصمت حيال هذه الإشكالية التي نعيشها ويعيشها المجتمع الألماني في التعامل معنا ومع غيرنا من القوميات الأخرى التي تعيش في ألمانيا. فالوعي الصحيح لمفهوم الاندماج وضروراته وأشكاله وأبعاده مسألة لا ينبغي تجاهلها والهروب منها. كما أن السلبية في التعامل مع الهوية الخاصة والحفاظ عليها هي الأخرى ضرورة نخطئ جداً عندما نغفلها. ولتعدد وتضارب الآراء في أمر هذه الإشكالية، سواء على صعيد الوجود العربي في ألمانيا أو على الصعيد الرسمي أو الاجتماعي الألماني يصبح من الضروري التصدي لهذه الإشكالية.
ولعل جملة الأسئلة التالية التي تواجهنا، أو تلك التي يجب أن تواجهنا، ما يلقي الضوء على أبعاد هذه الإشكالية:
– ماذا يعني الاندماج بالنسبة لنا، وبالنسبة للمؤسسات والأحزاب الألمانية؟
– هل يعني الاندماج التحرر الديني وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير وارتياد المراقص والعلاقات غير الشرعية وما شابه من أنماط السلوك؟
– لماذا نقاوم الاندماج طالما أننا اخترنا أو فرض علينا أن نعيش في ألمانيا؟
– هل يحق لنا أو نستطيع نحن الآباء أن نحدد مسارات وحدود اندماج أبنائنا؟
– هل للاندماج في مفهوم ومجالات وحدود معينة نتائج إيجابية أو سلبية بالنسبة لنا وللمجتمع الألماني؟
– أليس من حق الدولة الألمانية ومؤسساتها محاربة “المجتمعات الموازية” للجاليات الأجنبية؟
– كيف نوفق بين الاندماج والقيم التربوية والأنماط السلوكية وعاداتنا وتقاليدنا التي لا يمكننا التخلي عنها؟
– ما هو الدور الذي تلعبه بعض المؤسسات والجمعيات العربية في دعم الاندماج؟ وأي نوع من الاندماج؟
– ما هي العلاقة بين دعوات الاندماج وحقوق الإنسان؟
– لماذا الإصرار على الحفاظ على الهوية؟ وما هي الهوية التي نصر على الحفاظ عليها؟ ما هي ملامحها وعناصرها؟
– هل يمكن التوفيق بين نمط من الاندماج وصورة للهوية؟ ما هو هذا النمط من الاندماج، وما هي تلك الصورة للهوية؟
– هل تشكل أسماء أبنائنا وأعمال الختان وتعلم اللغة العربية وزيارة دور العبادة تعبيرات عن هويتنا؟
ماذا يجب أن يتبقى من صور التزاماتنا تجاه أوطاننا وأهلنا؟
– أليس من الخطأ الفادح للمجتمع الألماني أن يعيش أناس لا تأريخ لهم ولا ثقافة ولا لغة أم، ولا علاقة خاصة بشعوبهم وأوطانهم، ونحن نعيش عصر العولمة وذوبان الحدود؟
– ما هي مسؤوليات الدول العربية وسفاراتها ومنظمة الجامعة العربية ومؤسسات البحث والدراسة ووسائل الإعلام والصحافة والاتحادات والجمعيات العربية تجاه هذه الإشكالية؟
– ألا ينبغي أن تحظى هذه المسألة من اعتبار في جدول أعمال البرلمان العربي الذي تقرر تأسيسه في اجتماع القمة العربية الأخير في الجزائر؟
ومن أجل التمهيد لمناقشة الموضوع أشير إلى بعض النقاط ذات العلاقة بالموضوع:
1- ظاهرة العولمة وتأثيراتها في إطار ادعاءات نظرية “الصراع الحضاري”
يجب قراءة ظاهرة العولمة من جوانب متعددة. فالعولمة يمكن أن تقرأ على أساس أنها مرحلة تطورية طبيعية في العلاقات الدولية على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والتقنية. فأنماط الحكم السياسية وإداراتها ومؤسساتها وقيمها وآلياتها باتت أكثر حواراً وتلاقحاً وفهماً وتطبيقاً وتبنياً، لا سيما وأن انهيار المنظومة الاشتراكية في العقد الأخير من القرن الماضي قد عجل من وتيرة هذا التطور وأثر على اتجاهه. أقول أنه يمكن أن تقرأ هذه الظاهرة على أنها طبيعية عندما تكون ظاهرة إنسانية في أخلاقياتها ومبادئها وآلياتها. وهي بهذه الحال ظاهرة صحية ومطلوبة من أجل التكاتف والتعاون الإنساني لحل مشاكل الشعوب الكثيرة والتي تعجز عن حلها الشعوب بصورة منفردة.
كما يمكن أن تقرأ العولمة على أنها حالة فعل هادفة من هذه القوة أو تلك لفرض حالة ومفاهيم وآليات من أجل تحقيق هيمنتها وسيطرتها وثقافتها وقيمها ومصالحها المشروعة وغير المشروعة. إن العولمة بهذا الأسلوب والغرض تشكل حالة لا إنسانية في أخلاقياتها ومبادئها وآلياتها. وهي في هذه الحال ظاهرة تعسفية استعمارية جديدة ينبغي التعامل معها بحذر وعقلانية وآلية مناسبة.
أما ما يخص ادعاءات نظرية الصراع الحضاري التي يروج لها البعض، لأسباب ودوافع وغايات خاصة، فهي مسألة يجب أن يدقق جيداً في مراميها، كما يجب التعامل مع الاختلافات الثقافية والحضارية للشعوب في جوانبها الإيجابية باعتبارها حالات تنوع وإثراء إنساني وحقوق بشرية. في ذات الوقت ينبغي العمل على استئصال جذور الفكرة العنصرية والتعصب المتخلف في عقول ونفوس هذا أو ذاك من الأفراد والجماعات والشعوب والأمم.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن : هل هناك من علاقة بين العولمة وصراع الحضارات وبين إشكالية الاندماج والحفاظ على الهوية بالنسبة للجالية العربية في ألمانيا؟ إنني أعتقد ذلك، وقد يوافقني القارئ اللبيب عندما سأستطرد في هذا المقال …
2- خصوصيات العيش في المجتمع الألماني
إننا كمواطنين في المجتمع الألماني نتمتع بخصوصيات من حيث الانحدار والخلفية الثقافية وبالتالي القيم التي نحملها والعادات والسلوكيات الاجتماعية، لا بل والمشاعر والعواطف. إن هذه الخصوصيات تعيش في حالة حوار وجدال دائمين مع عموميات الحياة الثقافية والاجتماعية الألمانية، حيث يسعى المجتمع بسياساته وقوانينه وآليات تمثيله وسوق عمله إلى دعم الانخراط في هذا النمط وتلك الصيغة من الحياة الألمانية بكل ما تحمله من مفاهيم وقيم وسلوكيات وآليات. إن التواجد العربي في ألمانيا لم يعد تواجداً وقتياً أو عابراً بالنسبة للجزء الأكبر من الجالية العربية، حيث بدأ هذا التواجد يعيش في أجياله الثانية والثالثة، ويشمل مئات الآلاف حالياً وربما الملايين في السنوات العشرين القادمة.
3- الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي
- إن الجاليات العربية التي تعيش في ألمانيا على اختلاف أجيالها تجمعها الى هذا وذاك خصوصيات ثقافية، إلا أنها تختلف بواقعها الثقافي الخاص في المجتمع الالماني تبعا للعديد من الامور، من أهمها:
- اللغة الالمانية من حيث درجة اثقانها واعتمادها واستخدامها
- اللغة العربية من حيث درجة اثقانها واعتمادها واستخدامها
– الثقافة التاريخية الالمانية والعربية
- العادات والتقاليد والقيم التي نعيشها
- طريقة الحياة داخل الاسرة وخارجها
- مصادر الثقافة وأشكالها
- التجمعات والنشاطات الثقافية
- أما على الصعيد الاجتماعي فإن أسر الجاليات العربية تتوزع بين زيجات وأسر عربية، وأسر مختلطة مع الالمان أو غيرهم. إن هذا التنوع في أطراف المصاهرة يشكل تنوعا في العلاقة مع إشكالية الاندماج والحفاظ على الهوية موضوع حديثنا.
- ويشكل الموضوع السياسي عاملا أخر في تحديد العلاقة مع إشكالية الاندماج والحفاظ على الهوية. فهناك من العرب المنتمين إلى أحزاب وتجمعات وتوجهات تجد جذورها وساحات عملها في بلداننا العربية، وهناك من العرب ممن وجد في الاحزاب والتجمعات الالمانية ساحات سياسية للتعبير عن أرائه وأهدافه، إلا أن الغالبية من الجالية العربية ليسوا فاعلين سياسيا وبالتالي فهم يعيشون حالة سياسية سلبية من حيث الدور والتأثير.
إن هذه الحالات السياسية تختلف في استجاباتها لعوامل الاندماج والحفاظ على الهوية على حد
سواء.
- أما على الصعيد الاقتصادي فإن حالات العجز الاقتصادي والعيش الاتكالي تترك بصماتها على عملية الاندماج ولاتشكل دعامة للاحتفاظ بخصوصيات للهوية.
خلاصة واستنتاجات واقتراحات
مما سبق طرحه بخصوص إشكالية الاندماج والحفاظ على الهوية للعرب المقيمين في المانيا ، يمكن أن نستخلص الاتي من الامور:
- ان الجاليات العربية التي تعيش في المجتمع الالماني تعيش حياة مزدوجة في خصوصياتها ومتطلباتها تستوجب التعامل معها بواقعية من أجل تحقيق ذاتها والمساهمة في خدمة المجتمع الذي تعيش فيه والعمل على تحقيق مطالبها المشروعة. وعليها إذن وقبل كل شئ تحديد مفهوم الاندماج الذي تسعى له، كونه اندماجا إيجابيا فاعلا ومتفاعلا، وليس اندماجا سلبيا، وتحديد أساليبه و حدوده كما أنه على هذه الجاليات أن تحدد مفهوما واقعيا وعصريا لهويتها العربية بما يمكن أن يتعايش مع صورة الهوية الالمانية السائدة. من هنا يجيء طرحنا بأننا نسعى الى اندماج ايجابي يحافظ على الهوية، وإلى هوية قابلة للاندماج الايجابي.
- ان الاندماج الايجابي، بالمعنى الذي ذهبنا اليه – وفي جميع مجالات الحياة من سياسية وإعلامية واقتصادية وثقافية واجتماعية هو تعزيزلانسانية الهوية العربية وحضارتها. إن نجاح هذا الاندماج يستلزم جملة من الشروط الاستعدادية والتأهيلية حيث يأتي التعليم المتميز والوعي في مقدمتها.
- إن السعي للحفاظ على الهوية وبالمعنى الذي ذهبنا إليه، يتطلب تحديدا لملامح وخصوصيات وعناصر تلك الهوية كما أن المساهمات في التعريف بالثقافة والحضارة العربية ودعم علاقات التعاون بين العالم العربي وألمانيا هو تعبير عملي عن الشعور بالانتماء لهذه الهوية ودورها.
- إنني أقترح في ختام هذا المقال أن نولي جميعا أفرادا ومؤسسات وسفارات وجهات معنية أخرى مزيدا من الاهتمام بدراسة وبحث مسألة إشكالية الاندماج والحفاظ على الهوية لتأثيرات هذه المسألة سياسيا وثقافيا واقتصاديا واجتماعيا، خاصة وأن هذه المسألة لم تعد تقتصر على بضعة مئات أو ألاف من العرب، وإنما بضعة ملايين ممن يعيش في ألمانيا وغيرها من الدول الاخرى خارج العالم العربي.
وأود أن أقدم بهذه المناسبة اقتراحا على الاخوة والاخوات الذين يساهمون في كتاباتهم في صحيفة “الدليل” أن تتناول موضوعاتهم – قدر الامكان – الجوانب المختلفة لحياة جاليتنا العربية في ألمانيا لسببين رئيسيين على الأقل:
أولا : لأن وسائل إعلامنا المحلية ، وفي مقدمتها صحيفة ” الدليل” ، تصل إلى عدد كبير من أبناء
الجالية.
ثاُنيا : لان وسائل الاعلام العربية وغير المحلية لا تتناول كثيرا الموضوعات المحلية ذات الخصوصية.
إنني على يقين أن مقالي هذا لم يتمكن من الاجابة على جميع الاسئلة التي طرحتها في بداية المقال والتي تشكل مناسبة للكتابة بالنسبة للآخرين من الأخوة والأخوات.
برلين، 11 نيسان 2005
أحدث التعليقات