الاقتصاد السياسي
للتعليم العالي والبحث العلمي
د. نزار محمود
لكل بلد سياسته الاقتصادية التي تقوم على امكاناته وموارده المادية والبشرية في إطار منظومة القيم
والمفاهيم والمبادىء الأساسية للسياسة العامة للدولة وحاضنتها المجتمع في هويته وتاريخه
وطموحاته ودوره الإنساني الذي يسعى لتحقيقه. كما أن سياسة التربية والتعليم هي الأخرى وجه آخر
وأساسي للسياسة العامة للدولة، لا بل ومن أكثرها أهمية وخطورة على مستقبل البلاد على الإطلاق،
لأنها تستهدف المستقبل وتمهد له.
من هنا يجب أن تحظى موضوعة التعليم العالي والبحث العلمي في دورها التأهيلي للمحركات البشرية
للحياة في جميع مجالاتها من سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية بأهمية خاصة واستثنائية لما
تلعبه من دور في إعداد الساسة والقادة والقضاة والمربين والأطباء والمهندسين والفنانين وغيرهم
مما لا يستقيم العمران ولا تهدأ النفوس دونهم.
إن الأمر لا ينتهي عند الاعتراف بأهمية التعليم العالي والبحث العلمي، والتي غدت مسلمة لا تحتاج إلى
نقاش، بل يتعداه إلى ضرورة الإجابة على جملة من الأسئلة التي تشكل مادة لما أسميناه الاقتصاد
السياسي للتعليم العالي والبحث العلمي:
أي تعليم عالي وبحث علمي نحتاج إليه؟ هل يمكننا تحديد وتحقيق ذلك، وكيف؟ ما هي تكلفة ذلك التعليم والبحث، وكيف السبيل للتعامل معها في إطار متطلبات الحياة الأخرى وما يتوفر لدينا من أموال؟ وإذا كانت هذه أسئلة عامة وأساسية فإن هناك العديد من الأسئلة الفرعية الأخرى ذات العلاقة.
مؤسسات التعليم الجامعي والبحث العلمي الوطنية، الاختصاصات والمناهج:
جرت العادة أن تقام مؤسسات متخصصة في مجال تدريس الطلبة الذين كانوا قد أنهوا التعليم في
المدارس وحصلوا على شهادات تقاربت تسمياتها بين دول العالم، حيث أخذ بعضها من البعض الآخر
شروط ومستلزمات ذلك، دون التأكيد على وحدة المستويات الإنجازية للتلاميذ. هذه المؤسسات، والعامة
منها غير المتخصصة، تضم وحدات لعلوم علمية وطبية وتقنية وإنسانية بما تحتاج له، وتتمكن عليه، من
اختصاصات ومناهج وبرامج وأساتذة ومدربين وفنيين وقاعات ومختبرات وورش ومكتبات ومراكز
معلومات وبحوث ومرافق داعمة أخرى، وهي تعمل على منح شهادات دراسية وفق أنظمة عامة
وخاصة. من أجل ذلك تخصص الدول مبالغ كبيرة ، وتستثمر في هذه المؤسسات من الأموال أملاً في
عائدات اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية لم تتطور بعد انظمة ومعادلات حسابها الدقيق وجدواها
غير مؤشرات التشغيل والبطالة ومعدلات الإنتاجية على مستويات الاقتصاد الكلي والجزئي.
مؤشرات تخطيط التعليم العالي:
وفي هذا المجال يسهر المخططون للتعليم العالي والبحث العلمي في البحث عن اقتراح تأسيس الجامعات والكليات والاختصاصات ومراكز البحث العلمي التي تأخذ بالإعتبار، وفي إطار النهج السياسي للدولة وآليات إدارتها للمجتمع، المؤشرات التالية:
– مستقبلية الحاجات ال (القريبة والمتوسطة والبعيدة) للمجتمع من القوى العاملة المؤهلة، تخصصاً وكماً
ومستوىً، إنطلاقاً من خطط ورؤى التنمية واستقراءً لاتجاهات التطورات العالمية.
– الطاقة الحالية لمؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي في إعداد المتخصصين والباحثين وفق منظور
تطوري يأخذ بنظر الإعتبار حاجات المستقبل ومتطلباته في قواه العاملة.
– الإمكانات التعليمية والبحثية المؤهلة الحالية والمستقبلية (أي التي يمكن توفيرها على المدى القريب
والمتوسط والبعيد) وفق منظور آفاقي يأخذ بنظر الاعتبار معدلات أعمارها وخبراتهم وقدراتهم على
التطور والمواكبة.
– عامل الإتجاهات العالمية لتطورات التعليم العالي والبحث العلمي، مناهجاً وطرائق ومؤسسات، والتعامل
النسبي والتكييفي مع ظروفنا الواقعية المتطلعة للتقدم. إن مثل هذه المهمة يجب أن تضطلع بها الملحقيات الثقافية إلى جانب دوائر الوزارات أو الهيئات المركزية الأخرى.
– التعامل العقلاني، غير الأعمى أو التقليدي، في إعداد خطط وبرامج التعليم العالي والبحث العلمي وفق
حسابات الجدوى على المستويات السياسية والاقتصادية والمالية. فعملية إعداد القوى العاملة تكلف الكثير من المال والزمان، وهي بذلك استثمار للمستقبل في عنصره الأهم على الإطلاق وهو الإنسان، غاية التنمية ووسيلتها.
ميزات التعليم العالي المستقبلي:
إذا أردنا الحديث عن التعليم العالي الجيد والذي يلبي طموحاتنا في مستقبل واعد نقول: إن مميزات هذا
التعليم تتمثل بالآتي:
– إنه تعليم مستقبلي في مناهجه وأساتذته. فالتعليم اليوم يجب أن يتعامل مع الحاجات الحياتية له في قادم الأيام وليس غابرها أو حتى حاضرها. من هنا فإن اولئك المكلفين بوضع خطط ذلك التعليم وإقراره
يجب أن يتمتعوا برؤية تسافر في زمن الغد وتسبر أغواره، تعينها على ذلك معارفها وخبراتها
واطلاعاتها الواعية.
– التعليم العالي الذي نطمح له هو تعليم منفتح على مثيله العالمي في مناهجه ولغات مخاطباته وأسلوب تفكيره وتحليله وبحثه. فالعلوم في حالة تفاعل وتلاقح مستمرة، وهي لا تتطور بالسرعة إلا من خلال هذا التفاعل وذلك التلاقح. وفي هذا المجال تبرز أهمية تعلم واتقان اللغات الأجنبية الحية.
– إن برامج التعليم العالي يجب أن تبقى قابلة للتطور ومستمرة في تطوير فعلها البناء في جميع مجالات
العلم والمعرفة. من هنا فإن برامج التعليم المستمر لمؤسسات التعليم لخريجيها يجب أن تصبح خاصية
لبرامجها التعليمية ومراكز بحوثها.
– حيث أن لكل بلد وشعب في العالم خصوصياته السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية
والجغرافية، وكذلك درجة تطور معارفه وعلومه وتقنياته وتأهيل أبنائه وتطلعاته الخاصة تصبح مواءمة
ذلك التعليم لهذه الخصوصيات أمراً هاماً. إن الإستنساخ الأعمى للمناهج التعليمية مسألة لا تحقق أهداف
الاقتصاد السياسي للتعليم العالي لأي بلد في العالم.
– كلما كانت الشهادات التي تمنحها مؤسسات التعليم العالي رصينة في مستلزمات الحصول عليها
ومعبرة بعلمية عن جودة مستوى المعارف النظرية والمهارات والإمكانات العملية التي يمتلكها
الخريجون، كلما شكل ذلك ميزة للتعليم العالي الذي نطمح.
– يجب أن يتسم التعليم العالي بقابليته، مناهجاً وأساتذة وطرائق، بالتركيز على جهود الطالب الذاتية
بالتعلم. فهي مناهج طلاب تعلموا كيف يتعلموا! وبذلك يتحقق الاعتماد على النفس بالدرجة الأساسية فيتعلم الطالب وبحثه. وفي هذه الحال يتحدد دور الأستاذ بالتوجيه والتحفيز أكثر منه في القاء المحاضرات
وتلقين الطلبة. إن هذه الميزة ستساعد الطلبة والخريجين لاحقاً على الاستمرار في عملية التعلم التي لا
تتوقف.
– لما كنا قد بدأنا عصر المعلوماتية وثورة الاتصالات وزخم التراكم المعرفي الرقمي المذهل أصبح من
الضرورات الملحة تطويع المناهج والطرائق للتعامل مع معطيات التقنيات الجديدة والمتطورة بسرعة
كبيرة واستغلالها لردم، أو تقليص، الهوة بيننا وبين الدول المتقدمة. إن التعليم العالي الإلكتروني وأسلوب
التعلم عن بعد والجامعات المفتوحة باعتبارها مكملات وبدائل للتعليم العالي المنتظم يجب تطويرها
ووضع الشروط لتجاوز سلبياتها.
– إن البرامج التعليمية وامكاناتها التوضيحية، وما توفره من إمكانات عرض تفاعلي، مرئي ومسموع،
يجب أن تحظى بأهمية خاصة في مناهج وطرائق التعليم ومهارات الأساتذة. وهذا يتطلب إعادة صياغة
الكتب المنهجية والمواد المساعدة الأخرى بما يمكنها من الاستفادة من تلك الإمكانيات المتاحة.
التعلم العالي والبحث العلمي في الخارج:
يفها للدراسة في خارج الوطن سياساتها وأسبابها، إيجابياتها وسلبياتها، استثمارها وتكال . كيف يرى
الاقتصاد السياسي هذه الموضوعة، وكيف يعمل على إدارتها؟
لا شك أن كثيراً من الدول، ونحن منها، بحاجة ماسة إلى ابتعاث طلبتنا إلى الخارج، ليس فقط لعدم
التمكن، ربما، من توفير جميع التخصصات ومستلزمات تنفيذها في بلداننا، ولكن للرغبة في افساح
الفرصة لقسم من خريجينا الإطلاع على تجارب الآخرين علماً وثقافة وعيشاً، واكتساب لغاتهم. ولكن هل
تسير الأمور بهذه البساطة وتحقق ما نتمناه؟ الجواب ليس الأمر بهذه البساطة، ولا تخلو الممارسة من
منغصات.
نعود لسؤالنا عن دور الاقتصاد السياسي في الموضوع فنقول: أن هناك الكثير من الأمور التي ينبغي
على القائمين على شئون الإبتعاث الانتباه لها والتصرف بضوابط تجاهها، منها:
– شروط الإبتعاث ليس فقط في المعدلات المدرسية والجامعية، وإنما في الاختصاصات التي لا تتوافر
في المؤسسات التعليمية الوطنية التي يجب التركيز على رصانتها ومستوياتها، والترغيب في الانخراط
في آلياتها.
– وضع ميزانية ثابتة لمصاريف بعثة الطالب، لا يجوز تجاوزها إلا لأسباب قاهرة، لتحفيز الطلبة على
بذل الجهود المطلوبة وإنهاء دراستهم في أقصر المدد الممكنة.
– التركيز على الجامعات التطبيقية لإكتساب المهارات والخبرات العملية، والابتعاد عن الاختصاصات
المتوفرة في الجامعات الوطنية.
– معالجة حالات عدم التوفق في الدراسة، لأسباب تتعلق بظروف الدراسة في الخارج، من خلال
الالتحاق بالجامعات الوطنية بالسرعة الممكنة.
– الحرص على عدم ضياع بعض المبتعثين في الخارج، سواء من خلال تردي مستوياتهم الدراسية أو
ترغيبهم من قبل جهات عمل أخرى.
أحدث التعليقات