د. نزار محمود
المعهد الثقافي العربي
يخطئ من يعتقد أنه خلق ليعلم الآخرين … إننا نتعلم من بعضنا البعض ومن تجاربنا، ونتذاكر في
أمور الحياة بما تجود به علينا خبراتنا التي جمعناها بوعي وصدق مع الذات. وإذا كان أحدنا
يشير إلى هذا الكمال أو ذلك النقص، فإنه لا ينبغي عليه أن أن يدعي لنفسه هذا الكمال، أو أنه لم
يرتكب ذلك النقص. فالحياة مدرسة لمن أراد أن يتعلم فيها، والإنسان خطّاء وتوّاب.
أحببت في هذا المقام أن أخط رسائل ثلاث في مجالات مهمة في حياتنا، نحن أبناء الجالية العربية
في ألمانيا، وبالتحديد في مجالات التربية والعمل والسلوك العام، لما لموضوعاتها من دور كبير
في رفع شأن جاليتنا واحترامها بما يليق بها حاضراً ومستقبلاً. أرجو أن نقرأها بتدبر وأن تتسع
صدورنا لما يرد فيها من ملاحظات وعتاب.
الرسالة الأولى
في التربية وأهميتها:
الأطفال، كما هو معلوم، أمانة في أعناق آبائهم أساساً، وتربيتهم الحسنة واجب شرعي وقانوني،
ومهمة إنسانية نبيلة. فالتربية إذن مسؤولية كبيرة تقتضي أموراً عديدة:
– الوعي التام بأهمية تربية الأبناء وتأهيلهم لخدمة أنفسهم ومجتمعاتهم.
– الوقوف على الحاجات التربوية للأبناء من جسدية وصحية ونفسية وعصبية وأخلاقية حسب
تطورهم العمري.
– الإلمام بطرق وأساليب ووسائل إشباع تلك الحاجات التربوية لهؤلاء الابناء.
– الإستعداد النفسي والبدني لاستلهام الحاجات التربوية وتخصيص الوقت اللازم لذلك.
– تعريف الابناء بقضايا أمتهم وحثهم على الاطلاع على ثقافتها وحضارتها لخلق حالة شعور
بالانتماء ورغبة بالتواصل.
– معرفة الجهات والإمكانات المساعدة في أمور تربية الأبناء.
إن التغاضي عن أو تجاهل أي من الجوانب سالفة الذكر سيترك آثاره السلبية البالغة على العملية
التربوية للابناء. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل نحن على إستعداد لهذه المهمة إنسانياً ومعرفياً؟
من الطبيعي انه لا يجب أن نبالغ في جلد ذواتنا، ونطالب أنفسنا بأن نكون خبراء وعلماء في
التربية، ولكن علينا أن نعي تلك الجوانب في حدودها الدنيا على أقل تقدير، وأن نكون مستعدين
وصادقين في تحمل مسؤولياتها. فالأبناء الذين لا يحظون بتربية جيدة، هم أبناء متضررون
بالمقارنة مع أقرانهم ممن لهم حظوظ تربوية أفضل. فهم يعانون من مشاكل في التعلم أو السلوك
أو التركيز أو القبول الاجتماعي وبالتالي الاستعداد للحياة في مجالاتها المختلفة.
إن مسحاً ميدانياً لأسرنا العربية، والمدارس التي يجلس على مقاعدها أبناؤنا، وزيارة لساحات
اللعب وأماكن اللهو والمؤسسات الإصلاحية، تكشف لنا عن النتائج التربوية المختلفة، التي
نفخر ببعضها، ونحزن بسبب بعضها الكثير …! ولعل الوقوف على نسب وأرقام النجاحات
المدرسية والتأهيلية، وأعمال العنف والإعتداءات والمخالفات والجنح ، لا بل والجرائم بين
شبابنا ما يوضح لنا خطورة الواقع التربوي لأبنائنا. طوبى لآباء أبنائنا الصالحين ….
الرسالة الثانية
في العمل وقدسيته:
لكي تستمر حياة الإنسان وتتقدم لا بد له من أن يأكل ويشرب، ويقي جسده حر الشمس وبرد
الشتاء، وأن يشبع حاجاته الإنسانية المتنوعة والمتطورة الأخرى. ولما كنا جميعاً بحاجة إلى
إشباع تلك الحاجات فلابد لنا من البحث عن سبل هذا الإشباع بما نتمتع به من وعي و إدراك
وشعور بالمسؤولية الإنسانية تجاه أنفسنا والآخرين. فكان أن إهتدى الإنسان للعمل ووجد ما يحثه
ويكافأه عليه.
والعمل في معناه البسيط، هو اي نشاط إنساني واع يهدف إلى إشباع حاجة من خلال خلق قيم
اقتصادية (سلعة أو خدمة) نافعة. فالعامل في المصنع، والفلاح في المزرعة، والمهندس في
الورشة، والطبيب في المشفى، والسائق خلف المقود، وغيرهم يمارسون العمل بالمعنى الذي
اشرنا له.
ولقد تربينا نحن العرب والمسلمين على أن “العمل عبادة”، و”اليد العليا خير من اليد السفلى” و”
لا يكلف الله نفساً إلا وسعها”، وهي امور قدست العمل ورفعت من شأنه، وحددت في ذات الوقت
أبعاده في طاقة ووسع الإنسان. كما أن آسب العيش من عرق الجبين وعدم العيش على حساب
الآخرين كان دائماً مثالاً للحياة الحرة الكريمة.
ومن المعلوم أن لكل فعل شروطه، وآذلك للعمل شروطه في الاستعداد النفسي والأخلاقي
والرغبة في التعلم والتدريب والتأهل والمثابرة في البحث عن العمل وغيرها. من جهة أخرى فإن
للعمل آثاره الكبيرة على المستويات النفسية والتربوية والعائلية والسياسية والاقتصادية والمالية.
إن صعوبات الحصول على عمل معين أو تفشي البطالة يجب أن لا تثنينا عن مواصلة التهيؤ
والاستعداد والبحث عن العمل النافع المفيد.
وللعمل أخلاقياته. فالاخلاص في العمل، واحترام الزمن، والوفاء بالتزامات عقد العمل، والأمانة
والحرص على نتائج العمل، ينبغي أن تقع في صميم قيمنا الدينية والتربوية والأخلاقية. من
جهة أخرى فإن التمارض والإهمال وعدم الإكتراث وعدم الشعور بالمسؤولية والتقاعس
والكسل والتكاسل في انجاز ما تم التعاقد عليه، وغيرها من أشكال الخداع والتهرب والغش،
هي ليست شطارة أو رجولة أو عملاً أخلاقياً، آما قد يتوهم البعض أو يحاول أن يبرره بهذا
السبب أو ذاك.
وإذا كان البعض قد استسهل الكسب بالطرق المحرمة أو الملتوية أو من خلال تلك التي لا يراها
القانون شرعية، فإن النصح كل النصح في ترك مثل هذه الأعمال التي لا فخر ولا أجر ولا بركة
فيها.
إن نسب البطالة العالية وعدم التأهيل وضعف العزيمة في البحث عن عمل، برغم أسبابها
الخارجة عن إرادتنا، يجب أن لا تليق بنا كجالية عربية.
الرسالة الثالثة
في السلوك العام:
أذكر أنني آنت قد غضبت من صديق لي حين نبهني عن إرتفاع صوتي عند الحديث معه. كان
ذلك قبل عشرين عاماً عندما قدمت إلى ألمانيا. لقد كان صديقي على حق، ولابد أن أعترف بذلك.
هذه الظاهرة نعيشها، نحن والبعض، في عربات القطارات والباصات ومحلات التسوق والمقاهي
وفي الشوراع وغيرها من أماكن التجمع. نتحدث بلغتنا العربية، التي نعتز بها، بصوت عال
جهوري متناسين عشرات الناس من الأجناس الأخرى الذين يشاركونا الرحلة أو المكان. وفجأة
يرن الهاتف المحمول وتصدح أغنية أو موسيقى راقصة، ونروح نتحدث و.. ..و… .
ليس القليل من شبابنا من يعبث بمقاعد الجلوس وجدران العمارات وراحة الكبار من الناس،
وليس القليل منا ممن لا يراعي شروط السكن الجماعي، من نظافة وضوضاء وغيرها، في
العمارات السكنية المتعددة الأجناس. وكم أثار غضبنا صوت موسيقى مدوية وأغنية هابطة
تنبعث من سيارة مكشوفة يقودها شاب اسمر اللون على تقاطع في أحد الشوارع المكتظة
بالسيارات والناس… وعلى الرصيف، ربما، يجلس والده يدخن “الناركيلة” وينفث دخانها في
الهواء…!
إن ذلك لا ينبغي أن يكون سلوكاً نعتز به أو تصرفات ندافع عنها. فتاريخنا يروي كتباً عن نماذج
في آداب الحديث والسلوك، وحضارتنا تعج بصور مراعاة حقوق ومشاعر الآخرين.
إنني لا أريد أن اسبح في الخيال وأتصور أننا يجب أن نكون ملائكة في سلوكنا وتصرفاتنا، أو أن
ينشأ أبناؤنا بالصورة والأسلوب الذين تربينا عليهما، ولكني أصر على أننا قادرون على أن نترفع
عن كثير من أخطائنا، ونستحق أحتراماً أكبر نعتز ونفخر به. كما أن ما أشرت له من ملاحظات
نقدية لا ينبغي له أن يبخسنا أمثلتنا الايجابية الكثيرة في سلوكها وانجازاتها المتميزة التي تزهو
بها جاليتنا العربية والتي تشكل إثراءً إنسانياً للمجتمع الألماني الصديق والمضيف.
إنها دعوة لنا جميعاً، آباءً وأبناء، جمعيات وروابط وجاليات، مؤسسات رسمية وغير رسمية،
صحافة وإعلام، أن نتعاون على إيصال مثل هذه الرسائل التي نتمنى أن تكون صادقة في
أهدافها.
برلين، 2005.11.12
أحدث التعليقات