خواطر سياسية
د. نزار محمود
المعهد الثقافي العربي
لقد أصبحت مسألة الديمقراطية والحديث عنها و”تسييسها” و”عسكرتها” في السنوات الأخيرة من أكثر الموضوعات اهتماماً على جميع الأصعدة وفي جميع المحافل.
وحديثي عن الديمقراطية يأتي في إطار هذا الاهتمام العام أولاً، ولرغبتي في المساهمة بمناقشة جانب علاقة الديمقراطية بسياسة فرق تسد ذات الصيت والتأريخ السيء. وأرجو أن لا يستبق المرء الظن بأني أحد المصطفين في طابور المحاربين للديمقراطية الواعية والمدافعين عن شخصيات وممارسات وأنظمة دكتاتورية ذات نزعات تسلطية وقمعية ووحشية. فالديمقراطية كمفهوم وممارسة لا غنى عنها في روحها الأخلاقية والإنسانية، لا بل والعلمية السياسية والإدارية.
وقد يكون من المفيد الإشارة إلى أن الديمقراطية ليست مفهوماً حديثاً أو ممارسة جديدة. كما أن الديمقراطية في أنواعها وأساليبها مختلفة هنا وهناك، حتى في البلدان الرائدة في تطبيقها. فالديمقراطية النيابية أو البرلمانية، والديمقراطية الشعبية والديمقراطية المركزية وغيرها من الديمقراطيات هي بعض أشكال الديمقراطيات التي تمارس هنا وهناك، كما تتأثر الديمقراطية في مضمونها وصيغ تطبيقاتها حسب نظام الحكم ودستوره وأساليب الإدارة العامة والحكومية ورجالاتها. ومن هنا فإن أنماط الديمقراطية في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية عل سبيل الفرض ليست واحدة.
والأسئلة الأساسية التي تطرح نفسها، على رغم الاختلافات في مفهوم الديمقراطية وصيغها وأساليبها وانطلاقاً من روح الديمقراطية في ضرورة أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، وبالتالي وجوب اشتراكه الفعلي والفاعل في صنع القرارات في جميع المجالات والمستويات، واختصاراً كونه المصدر الفعلي للسلطات الثلاث، ما هي الأسباب الموجبة لتطبيق الديمقراطية، وما هي ضروراتها ومستلزماتها؟
هناك مجموعتان من الأسباب:
أولاً: الأسباب الإنسانية والأخلاقية
انطلاقاً من احترام كل إنسان في كيانه وإرادته وكرامته وحقوقه وقدراته، يجب أن تتاح الفرصة لكل إنسان المساهمة الفعلية في عمليات اتخاذ القرارات المختلفة وفي جميع مجالات الحياة. ففي مجال الحياة السياسية ينبغي أن تتاح الفرصة لكل أبناء الشعب من صاحبي الإرادة لكي يشاركوا في إقرار دستور ونظام وشكل حكم وإدارة الوطن الذي يعيشون فيه، وفي اختيار رجالات الهيئات التي تقف على إدارة السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية.
وفي المجال الاقتصادي ينبغي أن يكون لأبناء الشعب الحق وتتاح لهم الفرصة للمشاركة في اتخاذ قرارات أشكال وصيغ وعلاقات خلق الإنتاج وميكانيكيات توزيع هذا الإنتاج وثروات البلد. وهكذا في مجالات الحياة الأخرى من اجتماعية وتربوية وثقافية.
ثانياً: الأسباب التاريخية والعلمية
لقد أثبتت تجارب الحكم على مدى قرون طويلة وفي مجتمعات مختلفة فشل الأنظمة الفردية والديكتاتورية والأنظمة المركزية الخانقة وما آلت إليه من مصائب وكوارث ومصاعب جمة. وقد كان من نتيجة تلك الأنماط من الحكم حالات من الشلل والسلبية واللامبالاة، والتي أجبرت بعض الأنظمة المركزية على محاربتها بكل أشكال العنف والقسوة والذي أدى حتمياً إلى حالات الهجرة والهرب والانعزال والكآبة الفردية والجماعية، لا بل وإلى حالات المعارضة والمقاومة المشروعة واللامشروعة.
أما ضرورات ومستلزمات الديمقراطية فهي:
1- إن الأخذ بالديمقراطية بما تعنيه حق كل إنسان بالمساهمة في اتخاذ القرارات التي تهم حياته باعتباره فرداً في مجموعة الشعب، لم تعد مسألة نقاش على الإطلاق، وينبغي أن لا نستمر في إضاعة الوقت في أمر كهذا. فالديمقراطية بهذه الروح وبهذا المعنى حق إنساني ثابت، وأن الإيمان المطلق بضروراتها لا ينبغي أن يكون موضع شك إطلاقاً.
2- إن تطبيق الديمقراطية ينبغي أن لا يأخذ شكل مناورات أو تكتيكات سياسية شكلية خادعة، وإنما ينبغي تطبيقها بأخلاقية إنسانية ووعي ومسؤولية جماعية حاذقة.
3- إن تطبيق الديمقراطية باعتبارها ممارسة إنسانية واجتماعية يقوم على جملة من الشروط والمستلزمات والاستعدادات النفسية والخلقية والتربوية والاجتماعية. فالديمقراطية وعي ومسؤولية وممارسة يومية، فردية وجماعية، وفي جميع مجالات الحياة. كما أنها ممارسة تخضع، كباقي المفاهيم والضرورات الاجتماعية الأخرى، للتطور والملاءمة.
4- إن الديمقراطية لا تعني العبثية والتعسف في استخدام الحق الطبيعي للإنسان، كما أنها لا يجب أن تسيء استخدام الحرية تجاه المسؤولية الاجتماعية العامة، والتي لا ينبغي لهذه الأخيرة كذلك أن تشكل تفريغاً لروح الحرية في ديمقراطية الاختيار والتصرف.
مما سبق تتضح مدى أهمية وضرورة الممارسة الديمقراطية، ويبقى التساؤل إذن عن علاقة الديمقراطية بسياسة “فرق تسد” ذات الصيت السيء بحاجة إلى إجابة وتوضيح.
لقد ارتبط مفهوم الديمقراطية، لا سيما على المستوى السياسي، ارتباطاً وثيقاً بمفهومي الحرية والتعددية السياسية. فالحرية السياسية في جميع مظاهرها من إبداء الرأي والتعبير وتشكيل الأحزاب والجمعيات وحرية الصحافة والانتخاب وتكافؤ الفرص بغض النظر عن العرق أو الجنس أو الأديان والطوائف هي دعامة أساسية للديمقراطية، كما أن التعددية السياسية والحزبية في ضروراتها وموضوعيتها هي التعبير عن ممارسة الحرية والديمقراطية بشكلهما الإيجابي والبنّاء. إن هذه الممارسة الواعية تتطلب جملة من المستلزمات والضوابط المرتبطة بدرجة الوعي الوطني والسياسي والاجتماعي والثقافي، والمرتبطة في ذات الوقت بالحالة العامة للتطور. من هنا تتحدد ملامح الديمقراطية وصيغ ممارساتها الملائمة لهذا الشعب الذي يعيش ظروف وعي سياسي وحالة تطور اجتماعي معين وتتجاذبه مؤثرات داخلية وخارجية في أهدافها ومصالحها.
ومن هنا يكتسب التنبيه إلى علاقة الديمقراطية بسياسة “فرق تسد” التي تنتهجها بعض الدول والقوى، في إطار مصالحها وحساباتها التاريخية وطبيعة أنظمتها الاقتصادية ومفاهيمها للتمايز الثقافي والحضاري، لا سيما في الوقت الحاضر حيث يشهد حملة دولية كبيرة، أهمية استثنائية.
يجيء حديثي عن “العلاقة بين الديمقراطية وسياسة فرق تسد” عن تلك الديمقراطية التي يتاجر بها من ساهم في وأدها وتغييبها عندنا، وعن سياسة فرق تسد التي وجدت في تربتها عندنا أرضاً خصبة، حيث حاربنا بعضنا وقمعنا محكومينا وتآمرنا على حكامنا.
إنني أدعو للحذر من سياسة “فرق تسد” ذات الأهداف الخبيثة والتضليلية لجهات وجدت في تخلفنا وتعسفنا وسلطوياتنا وظلمنا لبعضنا منفذاً لكي تتسلل في حصان طروادة الديمقراطي إلى مجتمعاتنا وحضارتنا التي لم نكن لنفخر بها إلاّ لإنسانيتها وعدالتها في أيامها الزاهرة.
وأخيراً فإن دعوة الحذر هذه من أن تتسلل سياسة ” فرق تسد” من خلال “دعوات الديمقراطية” ودعم الدكاكين والشلل “السياسية” يجب أن لا تلغي ضرورة الاستمرار بالإصلاحات السياسية ومنها الممارسة الديمقراطية البنّاءة والتي تقوم دعاماتها على وعي إنساني جريء، وجرأة حكيمة واعية تتجاوز الذات إلى حد نكرانها.
برلين، 2004.12.15
أحدث التعليقات