حلم ابتعاث
د. نزار محمود
مدير المعهد الثقافي العربي
كان ذلك مساء أحد الايام بعد أن أديت صلاة العشاء مع والدي الطاعن في السن في أحد
المساجد القريبة لدارنا. تصفحت كتبي وتأكدت من أني أنجزت وظائفي المنزلية لليوم التالي
في المدرسة. آويت إلى فراشي بعد أن تمنيت لوالدي واخوتي ليلة سعيدة، وحديث مذيع
التلفاز عن برامج الابتعاث لخادم الحرمين الشريفين ترن في أذني. أستلقي على ظهري في
سريري وأروح محدقاً في سقف غرفتي متمتماً ببعض آيات القرآن الكريم والأدعية، وأغط
في نوم هادئ عميق…
جمع من الأصدقاء يتوجهون صوبي وأنا في طريقي إلى شأن أقضيه وقد ارتسمت علامات
البشر على وجوههم: خالد … خالد… قف يا خالد! أتوقف مستجيباً وأرد عليهم التحية.
مبروك … مبروك … يا خالد لقد وافقت وزارة التعليم العالي على انضمامك لبرنامج خادم
الحرمين الشريفين … لقد تحققت أمنيتك وستعود، بإذن الله، مكللاً بالنجاح … الحمد لله،
أقولها وأنا أتنفس الصعداء، وأشكرهم على بشراهم وأسرع لإخبار والدي وأخوتي ببعثتي
التي طالما حلمت بها. أدخل الدار مسرعاً وامارات الفرح تغمرني، وأصيح: ساسافر إلى
ألمانيا يا أبي، وسأتعلم اللغة الألمانية وأدرس التقنية لأصبح مهندساً أساهم في بناء وطني
ويفخر بي أهلي.
صاح أبي: ستسافر إلى ألمانيا يا ولدي… إن ألمانيا بعيدة وطقسها بارد، والألمان كثيروا الجد
والنظام والعمل … كم ستطول اقامتك في هذه البلاد، وكيف ستتحدث معهم؟ أسئلة أخرى
كثيرة راح يطرحها علي الأهل بخصوص سفري ودراستي. نظرت في عيون والدتي وقرأت
فيها مزيجاً من الحزن والفرح والتأمل العميق… أحسست بدفء دموع أهلي في قلبي
ودعوت الله أن يعينني على تحقيق أمانيهم في عودتي الظافرة المكللة بالتوفيق …
لقد بدأت إذن رحلة السفر والدراسة. إنها مهمة صعبة بلا شك، لكنها ليست مستحيلة، بعون
الله. فالكثيرون من أبناء وطني سافروا ودرسوا وعادوا بشهاداتهم، وللأسف هناك من لم
يتمكن من تحقيق الهدف من سفره. لا بد أن هناك من أسباب للنجاح، ولا بد أن هناك من
أسباب للفشل. لقد تمنيت ذلك وقبلت التحدي، ترى ماذا أعرف عن ألمانيا وعن مدنها
وطقسها وجامعاتها وأهلها. هل سأتمكن يوماً من التحدث باللغة الألمانية وقراءة آتبها؟ أسماء
كثير من المخترعين والمفكرين والشعراء والموسيقيين والفنانين والفائزين بجائزة نوبل
الألمان راحت تتراءى أمام أعيني. سيارات وقاطرات ومكائن وتقنيات وأدوية تتباهى
بألمانية صنعها وتحظى بثقة الناس بها. جمال الطبيعة في جبالها ووديانها وأنهارها وبحارها
وبحيراتها، وثلوجها المستلقية على أغصان أشجارها وسقوف أسطحها وفي شوارعها
ومماشيها.
يجب علي الآن ان أفكر بما أحتاج له من متاع سفر ولوازم شخصية، وأن أبحث عن أناس
كانوا قد درسوا في ألمانيا لأستفسر منهم واستفيد من خبراتهم. أمام الحاسوب أجلس باحثاً في
الإنترنت عن معلومات حول ألمانيا والدراسة فيها وحياة الناس وتقاليدهم وعاداتهم. بين كتبي
وجدت كراساً عنوانه: آيف تتعلم الألمانية في 7 أيام ! يا لها من سعادة لا توصف … تذكرت
كيف أنني أعددت بحثاً مدرسياً عن شاعر ألمانيا الشهير “غوته”، وان أكثر أجهزة دارنا
الكهربائية المانية من صنع شركة سيمنس وان سيارتنا المرسيدس هي الأفضل بين
السيارات. لقد ودعت المانيا قائدها هتلر في أفكاره ورؤاه وحروبه، وهي تسعى اليوم لنشر
جامعاتها في بلدان وطننا العربي وتستقبل طلبتنا توثيقاً للعلاقات والمصالح وبناءً لمستقبل
الأيام …
داخل مطار الرياض بدأت التعرف على لفيف من المبتعثين إلى ألمانيا، هذا سيدرس اللغة في
برلين، وذاك في فرانكفورت وثالث في درسدن. علينا أن نتعلم اللغة الألمانية بصورة جيدة
لكي نتمكن من الإلتحاق بفصول السنة التحضيرية التي سيكون النجاح فيها شرطاً لقبولنا في
الجامعات الألمانية.
في الطائرة جلسنا ننتظر بشوق وقلق هدير المحرآات والإقلاع … ونظراتنا تخترق النوافذ
وافكارنا سارحة في فضاء وفضاء… مرت دقائق وحبسنا الأنفاس حتى ارتفعنا في سماء
الوطن واعتلينا بحار السحاب…
بعد ساعات تحط الطائرة في مطار فرانكفورت. لقد تغيرت أشكال الناس والوانهم ولغاتهم
وخطوطهم … إنها ألمانيا إذن! البلد الذي ساتعلم وأدرس وأعيش فيه لبعض السنوات وأعود
موفقاً إلى وطني بإذن الله … استقبلنا عدد من الموظفين وأبناء بلدنا وأوصلونا إلى سكن
مخصص لنا، وقراؤا علينا إرشادات وتعليمات …
في صباح اليوم التالي كان علي أن أهتم بنفسي بوقت نهوضي وفطوري وتهيئة حاجياتي …
فلا أب،ولا أم، ولا أخت، ولا أخ حولي … لقد بدأت رحلة الإعتماد على الذات في الحياة.
صور أهلي واصدقائي وأقاربي راحت تتزاحم أمام عيني، ودمعات خفيفة تنساب على
خدي… إنها الغربة يا خالد… وهي جزء من ثمن الدراسة في الخارج، قلتها في نفسي
وحملت آراساتي وخرجت إلى معهد اللغة مستعيناً بالله…
لغة جديدة يصعب علينا لفظ بعض حروفها، تائهين بين مؤنثها ومذآرها… آلمات تكثر كل
يوم، وجمل يصعب علينا فهمها، وطقس بارد ما تعودناه في بلادنا… لا نستطيع قول الكثير،
ولا نفهم إلا النزر اليسير مما يتفوه به الناس…آنائسهم غير جوامعنا… ونساؤهم غير
المحجبات في أوطاننا…، وحميمية العلاقات الإنسانية أثلجتها برودة الناس…كان علينا أن
نبحث عن حلال الطعام والشراب… وأن نجاهد النفس كي نبقى في نظر الأهل أطهاراً وأمام
الله… في بلد الدراسة تلفك المثيرات والمغريات… من أجل الصلاة نبحث عن مسجد بين
الأقبية وفي البنايات… من أجل تعلم اللغة علينا أن نختلط بالألمان وأن نصبر على تكرار
الإجابة عن أكل لحم الخنزير وشرب المسكرات والنأي عن الراغبات…
كم مرة فكرت بترك الدراسة والعودة إلى الأوطان، لكني جاهدت النفس ومضيت في المثابرة
وتخطي الصعاب…
اختبارات وامتحانات، اخفاقات ونجاحات، صراعات وإرهاصات، رسائل واتصالات، تفاؤل
وعزم وإصرار أنهينا معها كورس اللغة بنجاح والحمد لله…
في السنة التحضيرية قرأنا الفيزياء والكيمياء كالتي قرأناها في بلدنا ولكن بغير اللغة ومنهج
الإدراك، وهكذا في الرياضيات والحاسوب وبرامج الإمتحان.
لقد تهيأت إذن للدراسة في الجامعة. أجيد اللغة وأعرف المصطلحات وأفهم طريقتهم في
التفكير والإيضاح وأذهب مستعداً للدرس والامتحان…
وتمضي سنوات مؤدياً فرائض واختبارات… ويتحقق حلمي بتوفيق من الله… ألملم بعض
المقتنيات وأستعد للعودة إلى وطني مكللاً بغار التفوق والنجاح…
ويضرب المنبه… وأصحو لأجدني كنت نائماً …أنهض مسرعاً عازماً، بعد الإستعانة بالله،
على تحقيق حلم الابتعاث….
د. نزار محمود
25/01/2010
أحدث التعليقات