د. نزار عزيز محمود
برلين، 1 كانون أول 1993
يعيش في ألمانيا مئات الآلاف من العرب موزعين على أقاليم ومدن هذه الدولة الواقعة في وسط القارة الأوروبية ذات الثقافة والحضارة الرائدة منذ القرون الوسطى للتأريخ البشري. كما تشكل إمكانات التعاون بين ألمانيا والعالم العربي من محيطه إلى خليجه وعلى جميع المستويات ومنها الثقافية والحضارية ما يجعل من بحث مسألة الثقافة العربية في ألمانيا مسألة حيوية ومهمة.
فمنذ الأزل وفي خضم سعي الإنسان لإشباع حاجاته المتنامية شكلت حاجاته العقلية والذوقية كذلك هدفاً دأب على تحقيقه حتى في بدايات تطورها حينما ظهرت في أشكالها وأبعادها البدائية المتناسبة مع مجمل تطوره الروحي والقلي والعصبي والنفسي وضمن إطار ظروفه السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة.
من هنا يأتي الحديث عن ثقافة العرب المقيمين في ألمانيا، وهو ما يستوجب منهجياً إلقاء الضوء على جملة أمور أساسية تلعب دورها في تحديد ملامح وشروط الحياة الثقافية العربية والوقوف بالتالي على ضروراتها وجوانبها المختلفة الأخرى. وهكذا نذهب في موضوعنا إلى التطرق في الإجابة عن أسئلة كثيرة في هذا الشأن منها:
ما هي التركيبة الاجتماعية والاقتصادية ، لا بل والسياسية للعرب المقيمين في ألمانيا؟ كيف يعيشون… وبماذا يحلمون؟ هل هناك مؤسسات عربية تعني بشؤون الثقافة العربية في ألمانيا؟ ماذا يقرأ ويسمع ويشاهد المواطن العربي في ألمانيا؟ من يكتب… ماذا يكتب ولماذا؟
كما أن البحث في الثقافة العربية في ألمانيا وواقعها يقودنا إلى ضرورة تحديد مفهوم ما سنذهب إليه في “الثقافة” و “الثقافة العربية” وكذلك خصوصيات هذه الثقافة وصيغ دعمها وتعزيز دورها، مع علمنا وتقديرنا لاختلاف وجهات النظر في هذه المسألة أو تلك، وكذلك صعوبات الخوض في موضوع جديد كهذا.
في مفهوم “الثقافة” و “الثقافة العربية”
إن معالجة موضوع الثقافة العربية في واقعها وشروطها يطرح بادئ ذي بدء مسألة تحديد ما سنذهب إليه في معنى “الثقافة” كمصطلح لا يتفق جميع المعنيين على تحديد مضمونه بذات الصيغة والشمولية والأهداف. فهناك من يذهب إلى أن للثقافة معنيان: خاص وعام. فالثقافة بالمعنى الخاص هي تلك النشاطات التي تؤدي إلى تنمية الملكات العقلية أو تسوية بعض الوظائف البدنية ومنها تثقيف العقل وتثقيف البدن، ومنها الثقافة الرياضية والثقافة الأدبية أو الفلسفية مثلاً.
أما الثقافة بالمعنى العام فتذهب إلى كل ما يتصف به الحاذق المتعلم من ذوق وحس انتقادي وحكم صحيح. أو هي التربية التي أدت إلى إكسابه هذه الصفات. من هنا أجاز البعض لأنفسهم أن يطلقوا لفظ الثقافة على تنمية العقل والذوق.
وإذا دل لفظ الثقافة على معنى “الحضارة” – كما يذهب البعض ـ كان له وجهان: وجه ذاتي، وهو ثقافة العقل، ووجه موضوعي، وهو مجموع العادات والأوضاع الاجتماعية والآثار الفكرية والأساليب الفنية والأدبية والطرق العلمية والتقنية وأنماط التفكير والإحساس والقيم.
* أود الإشارة إلى أنه على الرغم من مرور ما يقرب من 12 عاماً على كتابة هذه الدراسة فإنني لا زلت أجد فيها أفكاراً جديرة بالقراءة ونحن نعيش عام 2005 في ألمانيا.
ولعل العلامة العربي ومؤسس علم الاجتماع، عبد الرحمن بن خلدون (1332-1406م)، هو أول من عالج “الثقافة” و “الحضارة” بتعمق شديد وتمييز دقيق. فهو يرى أن مرحلة الحضارة هي أعلى مراحل تطور الدولة وثقافتها. ” فطور الدولة من أولها بداوة، ثم إذا حصل الملك تبعه الرفه، واتساع الأحوال. والحضارة إنما هي تفنين في الترف وإحكام الصنائع”. إن أهمية فكر ابن خلدون بهذا الصدد تتجلى ليس في ما يتعلق بمعالجته الدقيقة الصائبة لمفهوم “الحضارة” على أنها أعلى مراحل التقدم المادي والفكري فحسب، وإنما أيضاً لتمييزه لهذا المفهوم عن مفهوم آخر ما يزال يكتنفه الغموض، ومثار جدل وصراع حتى أيامنا هذه، ألا وهو مفهوم “الثقافة”. فالثقافة بالنسبة لابن خلدون هي الدراية الجيدة بكل ما يتعلق بمجال من المجالات فكراً وممارسة، وكذلك مستوى الذوق وأساليب التعامل التي تزداد رقياً برقي الدولة وتهذيب الحضارة. وتجدر الإشارة هنا إلى ما ذهب إليه من أمر مدلول الثقافة الذي أورده “معجم أكسفورد” المختصر على أنه: تهذيب الذوق، وأساليب التعامل، وتنمية العقل عن طريق التعليم وتدريبه على التفكير الدقيق”.
ولعل في التطرق إلى بعض التعاريف الأخرى المشهورة للثقافة ما يعين على الوقوف على مشكلة البحث من جهة، ويساعد على التمييز بين الثقافة بوصفها طريقة حياة كلية، وبين الثقافة بوصفها معارف عامة، وكذلك الثقافة بصفتها نشاطاً إبداعياً يضطلع به المثقف، وهو ما يوجب الحديث عن: من هو المثقف؟
ذكر مالينوفسكي (عالم الأنثروبولوجيا البولندي الأصل، 1884-1942 م) في مقالته عن الثقافة في “موسوعة العلوم الاجتماعية” أن الثقافة تشمل: مصنوعات الإنسان، والسلع والعمليات الفنية (التقنية)، والأفكار والعادات والقيم. وتعمل الثقافة، حسب رأي مالينوفسكي، على تلبية حاجات الإنسان.
ويورد الأستاذ عبد الله عبد الدايم تعريفاً مماثلاً بقوله: إن الثقافة هي جملة السمات والملامح الخاصة التي تميز مجتمعاً معيناً أو زمرة معينة سواء كانت روحية أو مادية، فكرية أو عاطفية، مؤكداً على نحو ما فعل مالينوفسكي على الإصالة التي تعني في معناها العميق: اكتشاف الصيغة الثقافية الذاتية التي تلبي الحاجات الخاصة بمجتمع من المجتمعات.
أما بالنسبة لعالم الاجتماع البريطاني “بيتر وورسلي” فإن الثقافة هي كل شيء يكتسبه الإنسان مما هو غير وراثي فيزيقي. فهي بالنسبة له نتاج اجتماعي وملكية اجتماعية معاً، يتناقلها جيل عن جيل، من خلال عملية التعلم عن طريق اللغة. وبما أن الأفراد قادرون على الانطلاق (في العمل الخلاق) من حيث وصل الآخرون الأكثر منهم تقدماً، فإن الثقافة تتميز بالتراكم والتطور والإبداع أيضاً. (أنظر: د. أحمد سالم الأحمر، المثقف العربي … واقعه ودوره، مجلة الوحدة، السنة السادسة، العدد 66، 1990، ص 59).
وفي ضوء ما استعرضنا من تعاريف ولخصوصية الموضوع، فإننا نميل إلى الأخذ بمفهوم الثقافة الدال على الحضارة في نقاشنا للثقافة العربية في ألمانيا لجملة أسباب أهمها:
1- الشمولية التي يتسم بها مفهوم الثقافة الدال على الحضارة
2- مسألة الصراع الثقافي والحضاري التي يعيشها العربي في مجتمع أجنبي كالمجتمع الألماني
بصورة مباشرة وغير مباشرة.
3- الحاجة إلى تأكيد الذات الثقافية بأسلوب حضاري يتماشى وخصوصية المكان والزمان في
ألمانيا.
4- التأكيد على مسألة التفريق بين “الأدب” و”الثقافة” باعتبارهما ليسا مصطلحاً واحداً كما يفهم أو
يتعامل البعض وبالتالي حصر دائرة الثقافة بالأدب أو المثقفين بالأدباء والشعراء فقط.
5- التركيز على ضرورات تطور مفهوم “الثقافة” عامة و”الثقافة العربية” خاصة وبالتالي تطور
شموليتها واتجاهاتها وضروراتها.
كما ينبغي الإشارة في هذا المجال كذلك إلى أن مفهوم الثقافة ودورها في الحياة الاجتماعية يختلف تبعاً لتعدد المدارس الفكرية والفلسفية والسياسية. فثقافة الرأسماليين هي ليست ثقافة الاشتراكيين، وثقافة الأغنياء ليست ثقافة الفقراء في أهدافها وأشخاصها ودوافعها ومظاهرها. ولا نريد هنا الخوض في نقاشات تلك الاختلافات، ونكتفي بالقول إجمالاً إلى أن النشاط الثقافي ينبغي أن يساهم في إشباع حاجات الإنسان غير المادية، كالحاجات الروحية والعقلية والنفسية بما يساعد على فهم أدق للحياة والنفس البشرية ويحقق له السعادة والرضا والشعور بالسمو والارتقاء والتمتع بجماليات الكون وإبداعات الإنسان وخياله المحلق في أعلى الأعالي والنافذ إلى أعمق أعماق الواقع.
وإذا كانت الثقافة في وجها الموضوعي تذهب إلى إلى مجموع العادات والأوضاع الاجتماعية والآثار الفكرية والأساليب الفنية والأدبية والطرق العلمية والتقنية وأنماط التفكير والإحساس والقيم –كما سبقت الإشارة إليه- فإن للثقافة إذن إلى جانب طابعها الإنساني السامي أبعادها وخصوصياتها المحلية والقومية في تعاشق غير متناقض أو متنافر، بل على العكس من ذلك، حيث أن هذا التنوع الإنساني في أشكال الثقافة وألوانها إنما يلقي المزيد من الأضواء والألوان ومن زوايا مختلفة على حاجات الإنسان وكوامنها. من هنا تأتي أهمية وضرورة الحديث عن الخصوصية القومية للثقافة الإنسانية ومنها ثقافة العرب المقيمين منهم في ألمانيا، ذات الخصوصية المزدوجة.
خصوصيات الثقافة العربية في ألمانيا:
إن الحديث عن مفهوم الثقافة والعرب المقيمين في ألمانيا يضيف أسئلة جديدة تبعاً لما ذهبنا إليه. ما هي الثقافة التي تلائم هؤلاء العرب في بلد أوروبي كألمانيا؟ أليس هناك من ضرورة إذن لتقصي حاجات هؤلاء العرب ورغباتهم القرائية والإعلامية والثقافية؟
أسئلة كثيرة تطرح نفسها وتبقى الإجابة عنها رهينة مناقشة بدهيات الثقافة في فهم أهميتها وضروراتها وتلمس نتائجها أولاً، وتحديد حاجاتها ووسائلها ثانياً. وتبسيطاً للعرض نرتأي مناقشة هذه الخصوصيات ووفق التبويب التالي:
أولاً: خصوصية التركيبة العربية المقيمة في ألمانيا
لغرض الإجابة عن الأسئلة السابقة نرى ضرورة الإشارة إلى الاختلافات الكبيرة وعدم التجانس بين المجموعات العربية المقيمة في ألمانيا. ويمكننا تقسيم العرب المقيمين في ألمانيا وتبعاً لأغراض بحثنا إلى المجموعات التالية:
– عرب يتمتعون بمؤهلات معرفية متقدمة وذوو ثقافة عامة وحس وذوق انتقادي عال.
- عرب يتمتعون بمؤهلات علمية وتكنولوجية ولكن ليست لهم اهتمامات ثقافية عامة كافية عربية أو أجنبية.
- عرب مندمجون بالحياة الألمانية وقد انقطعوا وانسلخوا عن اجتماعياتهم العربية وكذلك عن ثقافتهم العربية.
- عرب متزوجون مع عرب يهتمون بالأمور المعيشية والتجارية فقط دون إعارة أية أهمية لما
يسمى بالثقافة العربية.
- عرب لا زالوا يبحثون في بطون الكتب عن معلقات الشعر وخواطر جبران، ولا يرون في
الثقافة العربية غير ذلك الشعر والأدب.
– عرب يسعون إلى خلق حياة ثقافية عربية بوسائل ودوافع مختلفة وضمن إمكانيات متباينة.
مما تقدم يتضح مدى عدم التجانس في تشكيلة العرب المقيمين في ألمانيا، لا سيما عند الأخذ بنظر الاعتبار قلة العدد نسبياً والتشتت المكاني بين المقاطعات والمدن، الأمر الذي يزيد من صعوبة صياغة الخطاب الثقافي ووسيلته.
ثانياً: خصوصية مصادر الثقافة العربية في ألمانيا
على الرغم من قلة مصادر الثقافة العربية بالنسبة للعرب المقيمين في ألمانيا فإنها تتسم باختلاف وتنوع مصادرها واتجاهاتها. ويمكن حصر هذه المصادر بالآتي:
1- الكتب والمطبوعات والمجلات العربية وغيرها التي تطبع وتنشر في مختلف الدول العربية.
2- المطبوعات العربية التي تصدر في خارج الوطن العربي عدا ألمانيا.
3- المطبوعات العربية (من كتب ومجلات) الصادرة في ألمانيا.
4- البرامج الثقافية للإذاعات العربية التي يمكن التقاطها في ألمانيا، سواء منها الإذاعات العربية أو 5- الإذاعات التي تبث باللغة العربية من خارج الوطن العربي.
6- البرامج الثقافية لمحطات التلفزيون العربية أو التي تبث من خارج الوطن العربي.
7- أفلام الفيديو وأشرطة التسجيل الصوتي من موسيقى وغناء.
8- المعاهد والأقسام المتخصصة في الجامعات وكذلك المؤسسات الثقافية والعلمية المعنية بالثقافة العربية، على الرغم من محدودية دورها.
ثالثاً: خصوصية الثقافة المحلية الألمانية
تشكل الحياة العامة والثقافة الألمانية وغيرها من الثقافات الأجنبية عبر التلفزيون والإذاعة والكتب والمجلات والجرائد والسينما وغيرها من المؤسسات الثقافية جانباً مهماً في البناء الثقافي للعرب المقيمين في ألمانيا. ومعلوم أن التثقف بالثقافة الغربية، ومنها الألمانية، ضروري ومفيد كل الفائدة شريطة أن لا تستلب تلك الثقافة الخصوصيات الإنسانية القابعة في أحضان العقل الباطن للإنسان وأحاسيسه وهمومه وأحلامه وخصوصياته في هذه المسألة أو تلك.
رابعاً: خصوصية إزدواجية البيئة الثقافية جراء إعادة التوحيد الألماني
لا تخفى الأوضاع السياسية التي كانت قائمة في كل من شطري ألمانيا قبل إعادة التوحيد الألماني. إن هذا الوضع قد أدى إلى نمو وانتشار مدرستين ثقافيتين مختلفتين في اتجاهاتها وموضوعاتها ومفاهيمها في كثير من الأحيان. هذه الحال تجد صداها كذلك في عرب كل من شطري ألمانيا.، وبالتالي فقد شكلت خصوصية للثقافة العربية والمثقفين العرب في ما يكتبون ويقرأون ويفهمون من الثقافة.
واقع الثقافة والكتابة في ألمانيا:
إن الوقوف على واقع الثقافة والكتابة العربية في ألمانيا يتطلب من التطرق إلى جملة من المسائل التي تشكل في مجموعها صورة الحياة الثقافية القائمة ومنها:
أولاً: الكتب والمجلات والصحف والمطبوعات الثقافية الأخرى
إن المتتبع للإصدارات الثقافية في ألمانيا من مجلات وكتب لا يحتاج لكثير من الوقت والجهد في إصدار حكمه غير الإيجابي عن مستوى ما ينشر هنا وهناك وبين الحين والآخر. وهذه المطبوعات، ولا سيما المجلات منها، لا تتعدى كونها محاولات أولية وأحياناً بدائية لأشخاص دفعهم حب (المغامرة) وشدتهم الرغبة الشديدة إلى إصدار مطبوع ثقافي أسوة بالمجلات العربية التي تصدر خارج الوطن العربي، إضافة إلى دوافع وأهداف تجارية تارة، وشخصية ومعنوية تارة أخرى. وليس هذا الواقع بخاف عن الكثيرين من الأشخاص القائمين والمساهمين في إصدار هذه المجلات، ومنهم كاتب هذه الدراسة، ولكنها الأسباب الكثيرة المعلومة لدى المدققين في أحوال وظروف هذا الإصدار والعارفين بشروط وإمكانات الارتفاع به.
وإجمالاً يمكن تسجيل الملاحظات التالية في مستوى وواقع هذه الإصدارات:
- ضبابية أهداف الإصدار والتخبط في تحديد مساراته واتجاهاته وموضوعاته ذات المستوى
الثقافي الملائم.
2- تواضع مستوى الكتابة في موضوعاتها وصياغتها وأسلوبها ومنهجيتها الإعلامية والصحفية في
أغلب الأحيان.
3- بساطة مستوى التنفيذ الفني ورداءته وبدائيته، أحياناً، سواء ما يخص من التصميم أو الرسم أو
التصوير.
4- محدودية مساحة توزيع المطبوعات الثقافية العربية الصادرة في ألمانيا واقتصارها على مدينة
الإصدار غالباً، وهي نتيجة للأسباب الأخرى.
5- كثرة الأخطاء اللغوية والطباعية، لا بل والإخبارية، أحياناً.
6- عدم حداثة الموضوعات المنشورة وعدم اتسامها بالإثارة والتشويق لأسباب كثيرة سنأتي على
ذكرها لاحقاً.
7- اعتماد المجلات الصادرة في ألمانيا على الإعلان التجاري كمصدر أساسي لتغطية تكاليف
الإصدار وتمويل المجلة أدى إلى الاضطرار للتنازل عن كثير من الاعتبارات الثقافية والذوقية
في التعامل مع المطبوع والإعلان في آن واحد، في أحيان كثيرة.
إن واقع المطبوع الثقافي، ونريد به المجلات غالباً، بالمقارنة مع ما ينشر داخل الوطن العربي أو الدول الأخرى قد ترك انطباعا عاماً بضعف الدور الذي يمكن أن تلعبه الكتابة العربية في ألمانيا في أوساط العرب المقيمين فيها.
ثانياً: واقع المؤسسات أو المنظمات الثقافية العربية في ألمانيا
تحتل المؤسسات أو المنظمات الثقافية مكانة متميزة على ساحة الحياة الثقافية لم تلعبه من دور رائد وتوجيهي في دعم وتشجيع النشاطات الثقافية المختلفة وبأساليب وطرق وإمكانات مختلفة. من هنا تأتي أهمية الحديث عن واقع هذه المؤسسات وأثره في تحديد معالم الثقافة العربية في ألمانيا.
إن الطموحين إلى دور فعال لمثل هذه المؤسسات سوف يصابون بخيبة أمل كبيرة عندما تتراءى أمامهم هشاشة صور هذه المؤسسات وهامشية دورها لأسباب كثيرة، موضوعية وذاتية. وإذا كان لنا أن نبدأ بالذاتية من هذه الأسباب، والتي هي في تفاعل وتأثير متبادل مع الأسباب الموضوعية، والتي نعني بها مؤهلات ورغبات وظروف الأشخاص القائمين على إدارة أعمال هذه المؤسسات ودوافعهم. كما تشكل الإمكانات المالية ومشاغل الحياة الاقتصادية والتجارية والمعيشية ما يبعد العرب عن المساهمة أو الاهتمام بالجوانب الثقافية. وعلى صعيد آخر أدت التحزبات السياسية والإقليمية، لا بل والانحدارات الطبقية والدينية والطائفية والتخوفات الأمنية إلى إحجام الكثيرين عن المساهمة في الحياة الثقافية وإلى تشتت وتشرذم النشاطات القائمة وبالتالي محدودية أثرها وضعف دورها.
ثالثاً: التلفزيون العربي
لا نأتي بجديد إذا ما قلنا أننا نعيش الآن عصر المعلومة المرئية تبعاً لمقياس المساحة الزمنية أو التأثيرية أو الإخبارية في حياتنا الثقافية عموماً. وحيث يلعب التلفزيون أكبر الدور في مهمات اللغة المرئية تكتسب، تبعاً لذلك، برامجه الثقافية أهمية استثنائية. ومعلوم أن هذه البرامج ينبغي أنها قد أعدت بصيغ وأساليب وموضوعات تلبي حاجات ورغبات مشاهديها، وإلا شكلت حالة غير متفاعلة مع هذه الحاجات والرغبات والأذواق إذا لم تكن غريبة ومنفرة.والأسئلة التي تثار هنا: هل هناك بث تلفزيوني عربي ملائم في ألمانيا يفي بالحاجة لهذه الوسيلة الثقافية الخطيرة في حياة الناس؟ من ينبغي أن يقوم بهذه المهمة؟ وكيف عليه أن يحاكي العرب؟ وماذا يقول لهم ويعرض عليهم؟
هناك بث لأربعة قنوات عربية موجهة إلى أوروبا لا تخلو من اختلافات عن إرسالها الموجه محلياً. ولكن هل يفي ذلك بالغرض؟ الجواب ن وحسب ما نراه، كلا.
رابعاً: الإذاعة العربية
تساهم الإذاعة العربية من خلال برامجها الثقافية بادامة الصلة بالثقافة العربية واغنائها وتوجيهها عصريا. عليه يصبح الحديث عن اذاعة عربية في ألمانيا وبناء على ذلك مهما للوقوف على واقعها. ففي ألمانيا يستطيع العربي التقاط كثير من الاذاعات العربية من داخل وخارج الوطن العربي. كما أن هناك ارسالا محدودا جدا من داخل ألمانيا لايلعب دورا يذكر في الحياة الثقافية العربية سواء بسبب قصر وقته أو مادته بالمقارنة مع الحاجات والرغبات السماعية للعرب المقيمين في ألمانيا.
خامسا: دور النشر والطباعة والتصميم والتوزيع العربية
يتسم سوق دور النشر والطباعة والتصميم والتوزيع العربية في ألمانيا بمحدوديته لاسباب يمكن معرفتها. فقلة الطلب على خدمات هذه المؤسسات وارتفاع تكاليف خدماتها بسبب ارتفاع مستوى الاجور والمواد والضرائب والايجارات، وكذلك بسبب ضيق سوق المطبوع الثقافي في ألمانيا وضعف قوته التنافسية في اسواق البيع الخارجية –لما ذهبنا اليه من أسباب وأسباب أخرى- قد حتم محدودية هذه المؤسسات في عددها وخدماتها. ومعلوم أن واقع هذه المؤسسات لايشكل مؤشرا ايجابيا على نشاط الحياة الثقافية العربية في ألمانيا.
سادسا: المثقفون العرب في ألمانيا
من البديهي أن يشكل المثقفون العرب حجر الاساس في الحياة الثقافية العربية سواء في نشاطاتها أو مساراتها وتأثيراتها. وكما سبقت الاشارة اليه فان الثقافة لاتقتصر على الادب فقط وانما تنسحب الى جوانب المعرفة الاخرى كذلك فالمثقف انسان مبدع، ولديه الاستعداد لنشر ابداعه، وعنده المقدرة على التأثير في الاخرين. لذلك تدخل تحت مظلة المثقف تخصصات ثقافية متعددة، وبالتالي يشمل اصطلاح المثقف أفرادا من خلفيات تعليمية متنوعة مثل الشاعر والكاتب والفنان والمعلم والطبيب والمهندس…الخ بشرط أن يتمكن كل من هؤلاء من المساهمة في تطوير ونشر المعرفة في المجال الذي تخصص فيه. بتعبير آخر أنه كلما وصل الى مستوى البحث والابداع والمساهمة بالجديد والتطوير والاختراع كلما استحق صاحب الدور لقب مثقف. (انظر:د.محمد عمر التير، دور المثقف في تحديث المجتمع العربي، مجلة الوحدة، السنة السادسة، العدد 66 /1990 ، ص 38)
واذا كنا قد ذهبنا قبل قليل الى التطرق الى واقع الحياة الثقافية في أهم جوانبها والى ضعفه ولفاعليته، فان ذلك يطرح في مجموعه أسئلة محددة:
ما هو الدور الذي يلعبه النمثقفون العرب في ألمانيا؟ لماذاانتهينا الى هذا الواقع الثقافي اذن؟
وابتداء، أليس هناك من مثقفين عرب في ألمانيا؟ ان واقع الحال لايدلل على دور نشيط لهؤلاء المثقفين، وفي ذلك أسباب وأسباب سنتطرق اليها بعد قليل.
سابعا: الجهات الرسمية العربية من سفارات وملحقيات ثقافية
من المعلوم أن على سفارات الدول الدول العربية وملحقياتها الاضطلاع بمهام عديدة كمهمات متابعة رعاياها في جوانب حياتية متعددة ومنها الثقافية. عليه يصبح لزاما على هذه الجهات المساهمة بهذا الشكل أو ذاك في دعم وتشجيع النشاطات الثقافية العربية بعيدا عن روح التخندق السياسي أو الامني ضيق الافق، واضعين الثوابت القومية والمصالح الثقافية والحضارية المشتركة فوق كل الاعتبارات وفي مقدمة الاولويات في هذا الشأن.
ان واقع الحال لايشير الى أي دعم فعال وملحوظ وبالتالي غياب الحضور الرسمي في دعم هذه النشاطات سواء من ناحية توفير المواد الثقافية أو الاعلامية أو من خلال الدعم المالي والمعنوي وغيرها.
ثامنا: الجامعة العربية وموقفها من الحياة الثقافية العربية في الخارج
ان كون العرب المقيمين في الخارج ومنها ألمانيا ينتمون الى دول عربية مختلفة، ومن أجل الحفاظ على التواصل الثقافي والحضاري لهؤلاء الذين دفعتهم ظروف شتى للعيش خارج الوطن العربي، وبغية امكانية الاستفادة من خبرات ومهارات الكثير من الادمغة العربية المهاجرة، كان لابد لمؤسسة كالجامعة العربية من اعارة الاهمية اللائقة للحياة الثقافية العربية والمثقفين العرب الذين يعيشون في الخارج ومنه ألمانيا. ان الواقع الحالي لايشير الى أي دور للجامعة…
تاسعا: المعاهد والاقسام العلمية المختصة في الجامعات الالمانية والمراكز البحثية والثقافية المعنية
ونريد بها أقسام ومعاهد اللغة العربية وأقسام علوم الشرق وكذلك معاهد وأقسام العلوم الاسلامية والمتاحف ومراكز الابحاث المتخصصة. ان الملاحظ على هذه الجهات أنها تعمل في مجالها العلمي والثقافي بصورة شبه منعزلة عن الحياة الثقافية للعربية في ألمانيا وذات أهداف لاعلاقة لها بالحياة الثقافية للعرب المقيمين في ألمانيا، لابل ولاتشعر أنها معنية –الى جانب غيرها من الجهات- بأمور كهذه، أو ربما هكذا ارتأت. ومما يؤلم وجود نسبة غير قليلة من الاساتذة والباحثين العرب في مثل هذه المؤسسات ممن لاحضور لهم في الحياة الثقافية العامة.
عاشرا: موقف الجهات الالمانية الرسمية وشبه الرسمية من الحياة الثقافية العربية في المانيا
ليس من السهل الحكم على موقف الجهات الالمانية من الحياة الثقافية العربية في ألمانيا. فهناك العديد من الجمعيات والهيئات الثقافية العربية التي تتلقى دعما ماليا من الجهات الالمانية.
وبسبب هذا التشتت والتشرذم لاتستطيع أن تقوم بتقديم أعمال ثقافية ذات مستوى وتنوع لائق. كما لعبت تركيبة الحكومات والبرلمانات الالمانية سواء على المستوى المركزي أو المحلي وأطراف أخرى دورا في تشكيل الواقع الثقافي القائم.
حادي عشر: القارىء العربي
لعلنا لانكون دقيقين في التسمية “القارىء العربي” للتعبير عن مستقبل أو متلقي الرسالة الثقافية، لابل وهدفها وغايتها الاساسية، ولكنها ليست الوحيدة بالتأكيد. فالمستمع للراديو والمشاهد للبرامج الثقافية على شاشة التلفزيون والمستمع للموسيقى العربية وغيره هو كذلك محور نقطة البحث هذه.
ان تحليلا سريعا لتركيبة العرب في ألمانيا من نواحي فترات القدوم الى ألمانيا ودوافعها وظروفها والجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لابل وحتى الشرائح العمرية تساعدنا حتما على تلمس الصورة الثقافية للقارىء العربي. ففي الستينيات وبداية السبعينيات قدم أكثر العرب طلبا للعمل أو الدراسة – والتي تحولت لدى الكثيرين مع مضي الوقت الى هدف آخر لظروف متعددة يأتي في مقدمتها الزواج بالالمان غالبا- . كما شكلت دوافع اللجوء السياسي (الاقتصادي)، لابل والهرب الاجتماعي وكذلك الدراسة أهم أهداف قدوم العرب الى ألمانيا منذ منتصف السبعينيات. وفي خضم الحياة الجديدة في المانيا في نواحيها المعيشية والاجتماعية ومغريات الحياة الاوروبية والمستوى الثقافي والحضاري المتقدم وجد العربي نفسه –غالبا- في حالة لاتشجعه كثيرا ولاتلزمه بالتمسك والبحث عن أصوله الثقافية وبالتالي الحاجة الى نشاطات ثقافية عربية لاتغازل في نفسه سوى ذكريات وتمنيات وأحلام يريدها ولايريدها!. من هنا تأتي صعوبة التعامل الثقافي القائم مع القارىء العربي في المانيا وهو واقع تعيشه الحياة الثقافية بمرارة تارة وبتحد تارة أخرى.
ثاني عشر: الكاتب العربي
للوقوف على واقع الكاتب والكتابة العربية لابد من الاجابة على الاسئلة الاساسية التالية:
من يكتب؟ ماذا يكتب؟لمن يكتب؟ ما هي عناصر الكتابة وشروطها ومقوماتها؟
ان مستوى الكتابة في المطبوع الثقافي الصادر في ألمانيا –باعتبارها من أهم وسائل التعبير عن الثقافة- يتراوح بين الجيد والجيد جدا حينا، وبين البسيط والبدائي، لا بل والغريب عن كل يمت بصلة لثقافة أو كتابة أحيانا أخرى. فأقلام الكتابة –في غالبيتها- أقلام جديدة على عالم الكتابة ولا تحوي في داخلها غير القليل من الحبر عديم اللون أحيانا كثيرة … لاتغرف الا من همومها الخاصة وتجاربها الشخصية المحدودة.
ولعل أسلوب التطرق الى الحديث عن معنى الادب مثلا ما يكشف عن واقع أحد أهم جوانب الحياة الثقافية العربية في ألمانيا.
فالادب هو طريقة من طرق نقل المعرفة، ولكنه يختلف عن البحث العلمي في كونه يجمع الى هدف المعرفة هدفا آخر هو احداث الرضى الفني، بتعبير آخر هو طريقة لنقل المعرفة ترضي القارىء وتمتعه وتبعث فيه انسانا جديدا من الانفعال والتفاعل. والادب هو العقل المفكر الذي يجرد الصور ويبني أبنية الفكر والمخيلة التي تنقل المحسوسات وتزخرف بها وتلون وتضخم، والعاطفة التي تنفعل وتحيي، والذوق الذي يبعد عن كل شذوذ. والعمل الادبي بناء لغوي يستغل كل امكانات اللغة الموسيقية والتصويرية والايحائية والتعبيرية بحيث ينقل الى القارىء تجربة جديدة من تجارب الحياة. ويذهب الاستاذ حنا الفاخوري في كتابه “الجامع في تاريخ الادب العربي” الى تحديد عناصر الادب بالاتي:
العنصر الحياتي: ونعني بها العناصر التي تقدمها الحياة ذاتها، وهي بمثابة المادة الاولى لكل عمل أدبي سواء أكان قصيدة أم مقالة أم مسرحية أم قصة.
العنصر العقلي: أي الافكار التي يأتي بها الكاتب لبناء الموضوع والتي يعمل على التعبير عنها في عمله الفني.
العنصر العاطفي: أي الشعور الذي يثيره الموضوع في نفسه والذي يحاول أن يثيره في نفس القارىء.
العنصر الخيالي: أي القدرة على النظر الى الاشياء نظرا قويا وعميقا، بحيث تتمثل له الاشياء في صور وظلال، وبحيث يصبح القارىء ذا مقدرة مماثلة على ذلك النظر الممثل والمصور.
العنصر الفني: (عنصر التاليف والاسلوب)، لابد للكاتب – اضافة الى العناصر السابقة ومن أجل اتمام العمل الادبي ومعالجة العناصر السابقة- معالجة ترتيب وتهذيب وفقا لمبادىء النظام والتناسق والجمال والتأثير من عنصر آخر هو العنصر الفني، أي عنصر التاليف والاسلوب. فالاسلوب هو الكاتب –كما يقال-، هو طريقته الخاصة في التفكير والشعور والتعبير اللغوي.
كما لايبلغ الادب مبلغ الروعة الخالدة الا اذا تحلى بالوضوح والعمق والسمو. فهو الواضح بهدفه ومادته، المتعمق في عالم الفكر والشعور، والمتسامي الى عالم الروح.
ان الكاتب هو من كانت له ملكة طبيعية وعقلا مفكرا ومخيلة واسعة وعاطفة صادقة في تأثرها وانفعالها وذوقا يستمتع بالجمال والاناقة والاتزان…
ان الحكم على واقع الكتابة العربية في ألمانيا رهين القياس اذن بما أوردناه عن الادب وشروطه مثلا.
ثالث عشر: وكالات الانباء ومؤسسات الاعلام العربية
لاتخفى الاهمية الكبيرة والضرورة لوجود وكالات انباء ومؤسسات اعلام عربية تعمل على رفد الحياة الثقافية بالاخبار والمعلومات من ناحية، وتعمل على التغطية الاعلامية للنشاطات الثقافية العربية داخل وخارج الوطن العربي من ناحية أخرى.
ان واقع نشاط مثل هذه المؤسسات يكاد لايذكر بسبب عدم وجودها أو قلة ومحدودية نشاطها.
رابع عشر: معاهد ومدارس تعليم اللغة العربية
من المعلوم أن التعامل مع النشاطات الثقافية العربية يتطلب قبل كل شيء معرفة اللغة العربية باعتبارها وسيلة التخاطب والتعبير. واذا كانت اللغة لاتشكل عند البعض من العرب ممن قدم الى ألمانيا بعد نيله قسطا من التعليم في بلده، فانها تشكل أكبر المعوقات لدى من لايجيدها في التعامل مع النشاطات الثقافية العربية. من هنا تأتي أهمية مدارس ومعاهد تعليم اللغة العربية –لاسيما لابناء العرب المتزوجين مع الاجانب- لتكون حجر الاساس في هذا الموضوع.
ان واقع هذه المدارس والمعاهد والمعاهد القائم –غالبا- على مبادرات فردية وبدعم من الجهات الالمانية المعنية لايساعد –بتقديرنا- على أن تنهض هذه الجهات بدورها الهام والاساسي المشار اليه. فغياب العلمية والمنهجية وعدم وضوح الاهداف من تعليم اللغة العربية وتواضع التاهيل الاختصاصي نظريا وعمليا قد ساهم في بناء صورة واقع هذه المؤسسات.
خامس عشر: المؤسسات الدينية ودورها في الحياة الثقافية
لما كانت الاديان تلعب دورا في تشكيل مواقف الانسان الروحية والعقلية والنفسية والاخلاقية، ولما كان العرب في غالبيتهم يدينون بالدين الاسلامي الحنيف، أصبح موضوع تتبع أثر ذلك في الحياة الثقافية أمرا لاجدال فيه. ففي ألمانيا تنتشر جوامع ومساجد تؤدي فيها الفرائض وتلقى فيها الخطب والمواعظ، ويجري في بعضها تعليم القرآن الكريم وبيع الكتب والمجلات الدينية والتراثية.
سادس عشر: مؤسسات ونشاطات أخرى
ونريد بها بعض المؤسسات المختلفة في نشاطاتها والتي يمكن أن تعكس صورا ثقافية في ماتقوم به من أعمال. فالمطاعم والمقاهي العربية وغيرها بما توفره من أجواء وما تقدمه من مأكولات ومشروبات عربية، وكذلك النوادي الاجتماعية والفرق الفنية والموسيقية في ما تقدمه من نشاطات وفعاليات يمكن أن تساهم في القاء الضوء على أحد جوانب الحياة الثقافية العربية.
ان واقع الحال في هذا الشأن يبقى مقتصرا على المطاعم دون غيرها. واذا كنا نسمع ونشاهد بين الحين والاخر ببعض الفرق الموسيقية والغنائية العربية فانها في غالبيتها مستضافة من قبل بعض الجهات الالمانية المعنية بشؤون ثقافات العالم ومنها دار ثقافات العالم في برلين مثلا.
تقييم الواقع الثقافي وأسبابه:
ان تحليلنا للواقع الثقافي العربي في ألمانيا يشير بلا شك الى تواضع مستوى النشاطات الثقافية من كتابية وغيرها. ولعلنا لانبالغ اذا قلنا أنه ليست هناك حياة ثقافية بالمعنى الدقيق الذي ذهبنا اليه في تعريف الثقافة وأهدافها وشروطها وتنظيمها ودورها. ولدى البحث في أسباب ذلك سنجد أنفسنا أمام العديد من الاسباب، الموضوعية منها والشخصية، القابلة للمعالجة وغير القابلة للمعالجة، الاساسية والثانوية. ويمكننا اجمالا ذكر الاسباب التالية:
- ان تدني الواقع الثقافي العربي في ألمانيا يعود في جانب أساسي منه الى طبيعة التركيبة البشرية للعرب المقيمين في المانيا. يضاف اليها الظروف اللامستقرة لآلاف العرب المتقدمين بطلبات اللجوء السياسي.
- حداثة الخبرة الثقافية وبساطة المستوى الثقافي والعلمي والتأهيلي لغالبية المندفعين للعمل في الاوساط الثقافية العربية وفي مقدمتها الكتابة والنشر.
- قلة أو انعدام المؤسسات الثقافية العربية ذات المستوى المطلوب والقادرة والراغبة على تحمل المسؤولية الثقافية، اضافة الى انخفاض كفاءات ادارات القائم منها لاسباب موضوعية وذاتية.
- انصراف الجزء الاكبر من العرب المقيمين في ألمانيا عن الحياة والنشاطات الثقافية بسبب تدني مستوى هذه النشاطات من جهة، والانشغال بهموم ومغريات الحياة الاقتصادية والمعاشية والتجارية والاجتماعية الاخرى.
- وجود عدد من الصحف والمجلات العربية الصادرة عن مؤسسات صحفية واعلامية ذات خبرة وامكانات كبيرة تشكل كابحا لنشوء وتطور تجارب صحفية وكتابية جديدة بدلا من أن يكون محفزا ومعينا لها.
- غياب أو عدم وضوح واستقرار الاهداف من النشاطات الثقافية والكتابية التي تقوم بها بين الحين والاخر هذه الجهة أو تلك.
- كثرة الحساسيات السياسية والامنية في الاوساط والنشاطات الثقافية أدى الى بعثرة الجهود وتفريقها.
- ارتفاع تكاليف تنفيذ النشاطات الثقافية والكتابية (أجور طبع، أجور نشر وتوزيع، مكافآت عاملين، ايجارات، ضرائب وغيرها)
- غياب الرعاية والدعم المادي والمعنوي سواء من قبل الجهات العربية الرسمية أو الالمانية للنشاط والتنظيم الثقافي الهادف والمؤثر والمسؤول، والاستمرار في دوامة الدعم المشتت غير المبدع بسبب الظروف التي يعيش فيها العرب أنفسهم قبل كل شيء.
الدوافع والاتجاهات التجارية في ثقافة المطبوعات العربية الصادرة في المانيا، وهي حالة اقتضتها طبيعة الظروف الثقافية التي أشرنا اليها من جهة، وأدت الى ابتعاد المثقفين كتابا
وقراء عن هذه المطبوعات من جهة ثانية.
لجوء بعض المثقفين العرب المقيمين في المانيا –لاسيما ممن يجيدون اللغة الالمانية بصورة
جيدة والمتزوجين مع الالمان-الى النشاطات الثقافية الالمانية لاشباع حاجاتهم وميولهم
الثقافية وبالتالي عزوفهم عن المساهمة في الحياة الثقافية العربية.
عمل بعض المثقفين العرب والكتاب والصحفيين منهم على وجه الخصوص مع جهات ثقافية خارج ألمانيا من صحف ومجلات لاعتبارات موضوعية ومالية وشخصية.
- غياب دور الكوادر العلمية للثقافة العربية في المؤسسات الثقافية والعلمية الالمانية في الحياة الثقافية العربية في المانيا.
- ندرة الدراسات والبحوث المتعلقة بالحياة الثقافية العربية خارج الوطن العربي ومنها ألمانيا، وعدم التقدير الصحيح لاهمية ذلك على كثير من المستويات.
مقترحات وملاحظات ختامية:
بعد أن استعرضنا واقع الثقافة والكتابة العربية في ألمانيا في ضوء ماذهبنا اليه في مفهوم ودور الثقافة وأهدافها، وكذلك ما توصلنا اليه في أسباب تدني مستوى هذه الثقافة والكتابة، لابد لنا قبل أن نتقدم بعدد من المقترحات في امكانية رفع هذا المستوى أن ننطلق من مسألة هامة وهي أن للثقافة العربية دور لايجوز التنازل عنه، وهو أمر لايتعلق بالعرب المقيمين في المانيا فحسب، وانما بالمعنيين والمسؤولين في كل من الوطن العربي لابل وألمانيا –البلد المضيف- كذلك. فالاجنبي المثقف أفضل بكثير من الاجنبي غير المثقف. وبناء على ذلك نرى ضرورة طرح ما من شأنه المساهمة في تحسين مستوى الحياة الثقافية العربية في المانيا. ومن هذه الملاحظات والمقترحات:
- ينبغي فهم الثقافة ودورها الايجابي ووعي ضرورة تطور مفهومها وأساليبها سواء من قبل الجهات المسؤولة عن الحياة الثقافية أو من قبل (المثقفين) ذاتهم، كي لاتتحول الثقافة الى حاجة صنمية أو ضرب من اللهو واللغو والخيال والثرثرة الفارغة ومستنقعا للهروب أو اجترار الهموم.
- لما كانت الخنادق السياسية والتحفظات الامنية تشكل عوائق كبيرة في محاولات تجميع الجهد والابداع الثقافي، فان الدعوة الى فصل السياسة –بمفهومنا السائد- عن الثقافة تصبح واجبة، على الرغم من أن حالة العزل أو الفصل التام هي حالة صعبة اذا لم تكن مستحيلة. وربما تكون مسالة الاتفاق على مسلمات وثوابت في الثقافة العربية مايساعد في ذلك.
- على الرغم من خصوصية الثقافة العربية في ألمانيا، لابل وخصوصية حياة العرب المقيمين فيها، تبقى للجامعة العربية في دوائرها المختصة مسؤولية متابعة حياة هؤلاء العرب من الناحية الثقافية ورفدها ما أمكن بما تحتاج اليه في هذا الشأن.
- لما كانت هناك معاهد وأقسام في جامعات ألمانية تعني بشؤون الثقافة والتاريخ والحضارة العربية على مستوى البحث والتدريس والدراسة، يصبح من الضروري تعاون هذه الجهات مع المنظمات العربية العاملة في المجال الثقافي في المانيا، وكذلك مع المراكز الثقافية العربية من أجل الارتفاع بمستوى الحياة الثقافية وتطويرها.
- وجوب التنسيق بين المؤسسات الثقافية العربية في المانيا مع الجهات الالمانية ذات العلاقة، مع الاخذ بنظر الاعتبار ضرورة صون استقلالية هذه المؤسسات في اهدافها وبرامجها التي لاتتعارض مع الضوابط العامة.
- ضرورة اسناد مسؤوليات الاشراف وادارة المؤسسات الثقافية الى من تتوافر فيهم مواصفات ومؤهلات هذه المسؤوليات سواء عن طريق الانتخابات الحرة والواعية، أو عن طريق التكليف الواعي غير المتحيز.
- ضرورة قيام مركز ثقافي عربي مدعوم من قبل العرب المقيمين في ألمانيا والجهات العربية والالمانية الرسمية وشبه الرسمية يتولى مسؤولية تنفيذ الكثير من النشاطات الثقافية ذات المستوى اللائق والتي تعجز عن تنفيذها الدكاكين الثقافية المتفرقة، وذلك من خلال تركيز الجهود والطاقات والامكانات المادية والبشرية وبالتالي بلورة صورة حضارية وعصرية للوجه الثقافي العربيز ان مركزا كهذا ينبغي أن يشكل نقطة اشعاع انساني للثقافة العربية والمثقفين العرب في ابداعاتهم وانجازاتهم المعرفية والادبية، وحلقة وصل حضاري بين ألمانيا والدول العربية ذات السفارات والممثليات التي تناهز العشرين.
ان تحقيق مثل هذه الاهداف لايمكن –حسب تقديرنا- الا من خلال اضطلاع مثل هذا المركز
-المتسامي في أهدافه وطبيعته عن التخندق السياسي والامني والتحزب لهذا الطرف أو ذاك- بالمهام التالية:
- قيام المركز الثقافي العربي بدعم النشاطات الثقافية ماديا ومعنويا وبشريا والفعاليات ذات الاهداف التي تتماشى وطبيعة المركز المستقل سياسيا والمؤمن باهمية الثقافة والحضارة العربية.
- يعمل المركز على تنظيم الندوات والمحاضرات والحلقات الدراسية الثقافية بما يخدم حاجات ورغبات العرب في ألمانيا وبما يعكس من وجه حضاري وانساني للحياة الثقافية العربية.
- يعمل المركز على اصدار مطبوعات دورية من مجلات وصحف ونشرات، وكذلك العمل على دعم النشر والتأليف والترجمة الثقافية والعلمية.
- يعمل المركز على دعم وتشجيع الدراسات والبحوث والتحقيقات المتعلقة بالحياة الثقافية العربية وسبل تطويرها وتعزيز دورها الانساني.
- قيام المركز بمهام تسويق الكتب والمطبوعات الثقافية والعلمية المناسبة، سواء الصادر منها في داخل الوطن العربي أو خارجه.
- يضطلع المركز بتنظيم فعاليات ونشاطات اجتماعية ذات طابع ثقافي وحضاري.
- يعمل المركز على تنظيم اقامة المعارض الفنية ودعم وتشجيع الفنانين العرب.
- يتولى المركز مهمة تنظيم دورات مختلفة لتعليم اللغة العربية وفق مناهج وضوابط وأسس علمية مدروسة.
- يقوم المركز بالاشراف على التعليم المدرسي بصورة منهجية ورسمية بالتعاون والتنسيق مع الدوائر المختصة في الجامعة العربية.
- ينبغي على المركز أن يتولى تنظيم مايسمى “الاسابيع الثقافية العربية” وحسب الاقطار العربية وبالتعاون مع سفارات الدول المعنية.
- يضطلع المركز بتنظيم عروض للازياء العربية وحسب الاقطار العربية بالتعاون والتنسيق
مع السفارات العربية.
- يقوم المركز بتنظيم دورات لتعليم الموسيقى العربية وفنون أخرى.
- يمكن للمركزأن يلعب دورا هاما في تنظيم الزيارات واللقاءات والدورات العلمية والثقافية.
- المركز الثقافي العربي يمكن أن يشكل حلقة وصل سياحية، سواء من خلال مايعرضه من أفلام عن حضارة وثقافة العرب، أو من خلال تنظيمه لسفرات سياحية وثقافية في البلدان العربية، ومايقدمه من مواد اعلامية وثقافية.
- المركز يمكن أن يشكل مركز أنباء هام من خلال التعاون مع وكالات الانباء العربية والالمانية.
- يتولى المركز بالتنسيق والتعاون مع الجهات الالمانية والعربية المعنية مسائل البث الاذاعي والتلفزيوني.
ان الوصول الى مثل هذه الاهداف أو(الاحلام) يتوقف على جملة شروط منها:
- ايمان الجهات العربية والالمانية والعرب المقيمين في ألمانيا بضرورة وأهمية مثل هذا المركز والعمل على تحقيقه وبالتالي دعمه ماديا وبشريا ومعنويا.
- تسامي المركز عن التبعات السياسية والامنية لهذه الجهة أو تلك، والعمل وفق ثوابت ومسلمات ثقافية وحضارية انسانية وقومية.
- قيام المركز بالعمل على تطوير العلاقات السياسية والثقافية العربية الالمانية بما يخدم المصالح المشتركة.
- ضرورة اضطلاع ادارة كفوءة للمركز، ذات أفق واسع في العديد من مجالات الحياة ولها من الخبرات والمؤهلات ما يساعدها على تحقيق أهدافها.
برلين
1 كانون أول 1993
أحدث التعليقات