د. نزار محمود
مدير المعهد الثقافي العربي
إن موضوع تعليم اللغة العربية، لا سيما لأبناء الأسر العربية في الخارج، ينبغي أن يحظى من قبل الجهات الرسمية وغير الرسمية المعنية بأهمية خاصة في اطار التعامل مع الواقع بوعي ومسؤولية.
من هذا المنطلق وددت أن أشارك المعنيين والمهتمين والمسؤولين في مناقشة جملة من الجوانب التي تحيط بعملية التعليم/ التعلم للغة العربية،في برلين على سبيل المثال، من أجل تسليط الضوء على هذه العملية وأهميتها وأهدافها وشروط ومستلزمات نجاحها.
هناك بالتأكيد محاولات جادة ودراسات ونقاشات حول هذه المسألة ساهمت في تحسين مستوى هذه العملية، ولكنها لا تزال بحاجة إلى المزيد من النقاش والمتابعة المستمرة. ولعلي واحد من هؤلاء الذين اهتموا وشاركوا في معايشة هذه العملية ودراستها منذ 15 عاماً.
إن الحديث عن أية عملية تعليم ينبغي أن يتناول بالدراسة جملة من الأمور أهمها:
- أهداف العملية وضروراتها
- أطراف العملية من معلم ومتعلم وغيرهم
- شروط العملية ومستلزماتها (علمية، مادية، مالية، إدارية، قانونية)
- الأساليب والأنظمة المتخصصة في تنفيذ العملية
إن تحديد أهداف وضرورات تعليم اللغة العربية لأبناء وبنات الأسر العربية هو الخطوة الأولى والأساسية في نجاح هذه العملية. وهذا يتطلب الوقوف الواعي على واقع هذه الأسر إجتماعيا وثقافيا وروحيا وكذلك معرفة طبيعة التطلعات الحياتية لأبنائهم وبناتهم في إطار المجتمع الألماني وإشكالية الإندماج والحفاظ على الهوية التي نعيشها جميعا في كل تفاصيل حياتنا.
ماذا نريد من تعليم أبنائنا وبناتنا للغة العربية؟ وهل هناك ضرورة لهذا التعليم؟ إن علمية ومسؤولية ودقة الإجابة على هذين السؤالين ستساعدنا على تحديد أهداف عملية تعليم اللغة العربية وضروراتها.
ولغرض توضيح الصورة أدرج أدناه عددا من الأهداف المحتملة:
- نتعلم اللغة العربية لأنها اللغة الأم لأهلنا ولأنها جزء أساسي من هويتنا وانتمائنا.
- نتعلم اللغة العربية لأنها لغة الدين والقرآن الكريم.
- تنعلم اللغة العربية لكي نستطيع أن نتحادث ونتحاور ونتفاهم ونتفهم أهلنا وأقاربنا.
- نتعلم اللغة العربية لكي نستطيع قراءة وفهم الكتب والمجلات والصحف العربية في الدين والتاريخ والسياسة.
- نتعلم اللغة العربية لكي نستطيع مشاهدة الفضائيات ولنسمع الإذاعات العربية.
- نتعلم اللغة العربية لكي نستطيع الكتابة باللغة العربية.
- نتعلم اللغة العربية لأن ذلك يساعدنا على دعم التعاون السياسي والإقتصادي والتجاري والإعلامي بين ألمانيا وبلداننا العربية.
- نتعلم اللغة العربية لأننا نريد التخصص في دراسة هذه اللغة.
- نتعلم اللغة العربية لأننا نأمل أن نعود يوما يوما إلى أوطاننا الأولى.
10-نتعلم اللغة العربية كلغة أم لأن ذلك يساعدنا على تعلم اللغة الألمانية واللغات الأخرى بصورة أفضل.
إن تحديد هدف أو أهداف عملية التعليم سيعطينا المفاتيح الأساسية لنجاح هذه العملية برمتها. أذكر أنني طرحت على نفسي وعلى أخوة طلبوا مني المشاركة في تأسيس مدرسة السؤال الأساسي التالي:
ماهو هدف هذه المدرسة وماذا يراد بها؟ كانت هذه البداية التي تبعتها خطوات أساسية أخرى.
فتحديد الأهداف هو أشبه بتحديد جهة السفر. فعندما يرغب أحدنا أن يسافر من برلين إلى مكان ما، فلابد له أن يعرف ويحدد المدينة التي يريد أن يسافر إليها، لكي يستطيع متابعة رسم خطة سفره في غايتها ووسيلتها وتكاليفها ومدتها. فعندما نريد نحن من أبنائنا على سبيل المثال أن يتعلموا اللغة العربية من أجل أن يتمكنوا فقط التحادث مع أهليهم في أمور حياتية ومعيشية محدودة، فإن منهاج التعليم، في مفرداته وأساليبه ومدته ومستلزماته ينبغي أن يلبي الحاجة لتحقيق هذا الهدف. كما يتطلب الأمر اختيار الأسلوب التعليمي المناسب وتحديد أولويات المهارات اللغوية المطلوبة من فهم عند الاستماع او الفهم من خلال القراءة او امكانية التعبير الكلامي أو الكتابي. وهكذا يتحتم على القائمين بأمور التعليم أن يبدأوا بتحديد هدف التعليم قبل كل شيء لكي يهتدوا إلى اختيار المنهج والاسلوب المناسبين.
نحن نعلم أن عملية التعليم قد لا تقتصر على واحد من الأهداف التي أشرت إليها، بل تشتمل على أكثر من هدف وربما على جميع الأهداف التي أوردتها. ونحن نعلم كذلك صعوبة توافق أهداف التعليم من قبل الأطراف المتعلمة المختلفة. إن ذلك يشكل تحديا كبيراً للمسؤولين عن تحديد أهداف التعليم وبالتالي أسلوب وشروط ومستلزمات عملية التعليم/التعلم الأخرى.
وفي هذا المجال لابد من التطرق إلى مسألة صلاحية المناهج التعليمية للغة العربية لبلداننا العربية في بلدان المهجر.
لا يخفى على أحد أن لكل بلد عربي سياسته التعليمية التي تخص بلدا معينا ومجتمعا له سياساته وظروفه وقيمه وعاداته وتقاليده ومصادره المعرفية والتي تشكل كلاً مترابطا ومتفاعلا.
أضف إلى ذلك الحالة الثقافية والروحية لأبناء الجالية العربية المتأثرة بعوامل الحياة في المجتمع الألماني واشكالية التوفيق بين الاندماج والحفاظ على الهوية وانعكاسات ذلك كله على مدخلات ومخرجات العملية التعليمية/ التعلمية.
من هنا فإن اعتماد أي منهج تعليمي لأي بلد عربي، وللأسباب التي أشرت إليها، لن يلبي الحاجات التعليمية/التعلمية ولا يشكل إشباعا لها موضوعياً وواقعياً، لا سيما مع غياب شروط ومستلزمات عملية التعلم/التعليم الأخرى الخاصة بتلك المناهج بما فيها عامل زمن ومدة التعلم.
إن هذه المسألة قد أفرزت اختلافا وتشتتا وتخبطا وكذلك اجتهادات مدروسة وغير مدروسة في اختيار هذا المنهج أو ذاك، ولم أقف أنا شخصيا لحد الآن على منهج لا يخلو من نواقص وثغرات تبعا لاهداف عملية التعليم/ التعلم التي اشرت إليها، على الرغم من الجهود الشخصية الطيبة لبعض الأخوة ومراكز التعليم التي عملت شخصيا في أكثر من واحد منها.
أما المسألة الثانية التي ينبغي أن يتركز الإهتمام عليها فهي مسألة أطراف عملية التعليم/التعلم. فالمعلم هو المحور الأساسي في نجاح عملية التعليم/التعلم وهو مفتاح تحقيق أهدافها. فهو كسائق المركبة ودليلها الذي يقود المسافرين إلى جهة السفر. وهو الشخص الذي سيعمل على تأمين سلامة المسافرين واحتياجات الرحلة وتحديد سرعة المسار، شارحا لضيوفه محطات السفر التي يمرون بها. فالدراية والتأهيل والخبرة العلمية والمهنية، وقبل كل شيء، الإيمان بأهمية التعليم والوعي بأهدافه هي الشروط الأساسية لنجاح مهمة عمل المعلم الصبور الفاضل.
إن واقع هذا التأهيل، ولأسباب تخصصية ومالية ومنهجية، لا يرتقي إلى المستوى المهني المطلوب.
أما المتعلم فهو باستعداده ورغبته في التعلم، محفزا ومدعوما من قبل أسرته، يشكل دعامة نجاح أو سبب فشل لهذه العملية. كما تلعب عوامل بيئية أخرى كالجهات الرسمية الألمانية والقوانين والظروف الحياتية الأخرى دورا بهذا الشكل أو ذاك في التأثير دعما أو تثبيطا لعملية هذا التعليم.
ومن البديهي أن تلعب إدارة التعليم دورا متقدما ومهما في إنجاح عملية التعليم/التعلم. فأعمال تخطيط هذه العملية، بما فيها تحديد أهدافها وأعمال تنظيمها وتحفيز أطرافها ومتابعة سيرها تشكل أساسا في هذه العملية. ولا تقتصر أعمال إدارة التعليم على الجوانب التخصصية البحتة في تحديد الأهداف ووضع واختيار المناهج ورسم سياسات التعليم ووضع نظام له، وإنما تتعداها إلى أعمال حل المشكلات ذات العلاقة بحسن سير العملية التعلمية. فمشاكل توفير أماكن التعليم المناسبة ومستلزماتها، ومهام توفير المواد التعليمية واختيار الهيئة التعليمية والمشاكل السلوكية والتربوية تشكل هي الأخرى محاور عمل لإدارة التعليم.
أن عملية التعليم/ التعلم باعتبارها مشروع مدرسي ينبغي أن تستكمل شروط ومستلزمات نجاحها، إلى جانب ما ذكرنا، بالآتي من الأمور:
- توفر المادة التعليمية المناسبة لتحقيق أهداف المنهج المحدد.
- ضرورة متابعة نجاح عملية التعليم/ التعلم من خلال الاختبارات الدورية
- وجوب توثيق نتائج التعليم والتعلم بشهادات رصينة وأمينة
مما سبق طرحه وتوضيحه نستنتج جملة من الملاحظات:
- إن عملية التعليم/التعلم هي عملية ذات أهداف وتحتاج إلى شروط ومستلزمات جديرة بالإنتباه والاهتمام من قبل الأطراف العديدة المعنية.
- إن واقع هذه العملية وسيرها يتطلب تظافر جهود الأطراف المعنية للإرتقاء بمستوى هذه العملية وبالتالي تحقيق أهدافها ونجاحها.
- إن الأطراف المعنية بهذه العملية ينبغي أن لا تقتصر على الأسر ومراكز التعليم، على رغم أهميتها، وإنما تتعداها إلى التدوائر الثقافية والأقسام المعنية في سفارات الدول العربية وممثلية الجامعة العربية وكذلك المتخصصين بشؤون التربية والتعليم ومن ذوي الخبرة والوعي.
- لقد بذل ويبذل كثير من المراكز التعليمية جهودا مشكورة في رعاية عملية تعليم اللغة العربية ولم تدخر الجهود في سبيل دعمها وتطويرها، ولكنها للأسف لم تحقق الأهداف المرجوة منها.
من أجل المساهمة في تطوير هذه العملية والاستمرار في ترشيدها فإن المعهد الثقافي العربي في برلين، وهو يساهم بتجربة جديدة ومحدودة من خلال مدرسته “مدرسة الأندلس لتعليم اللغة العربية” مستعد للمشاركة مع مراكز التعليم الأخرى في دراسة هذه العملية وبحث سبل وأساليب الإرتقاء بها.
كلنا أمل أن نتعاون بوعي وتجرد وموضوعية هادفة.
أحدث التعليقات