“قرار محكمة سريالية”— ملاحظات بمناسبة الثورات العربية
“قرار محكمة سريالية” ملاحظات بمناسبة الثورات العربية
د. نزار محمود المعهد الثقافي العربي
قراءة قرار الحكم: بناء على ما عرضته لجان ثورات الشباب الشعبية العربية من فساد ودكتاتورية وعمالة حكام الأنظمة العربية وسرقتهم لثروات الشعب وسوء استخدام السلطة وقمع حقوق وحريات أبناء شعوبها وسفاهة التصرف بالمال العام والعبث بتاريخها ودورها الإنساني وعدم تمكنهم من تحقيق آمال شعوبهم في حياة كريمة وعادلة ومستقبل زاهر، فقد تقرر ما يلي: “يتنحى جميع حكام الأنظمة العربية ويوضعون تحت الإقامة الجبرية ووضع اليد على جميع ممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة، وتشكيل لجان تحقيق في جميع ما اقترفوه مما يخالف القانون والدستور لغرض اتخاذ القرارات الشرعية من قبل المحاكم المختصة، على أن تقوم حكومات بتصريف شئون البلاد وأن تجرى انتخابات نزيهة للمجالس التشريعية والفضائية والتنفيذية بما فيها رئاسة البلاد”. إنتهى قرار المحكمة وتنفسنا الصعداء وانتابنا شعور بأن كوابيس الظلم والاستعباد والتخلف انتهت إلى غير رجعة متأملين في أبطال الثورات كل الخير والسعادة ورفع الرأس… لم نكن نعلم أن المسألة يمكن أن تكون بهذه السهولة، على رغم صعوباتها ودماء من سقط في سبيلها من الأبطال… كم كنا نتخوف من القوى الخارجية داعمة أنظمتنا العربية جميعاً دون استثناء، لكنها اليوم معنا في ثورتنا ليل نهار…! هل كان السيد “خامنئي” على حق عندما قال إن هذه الثورات قد اتخذت من الثورة الإيرانية مثالاً اقتدت به؟، أو هكذا قال. فلقد سقط شاه إيران حليف الأمريكان، في ثورة شعبية لا تخلو من جهل وغوغاء، غير مأسوف عليه من الأصدقاء قبل الأعداء… لقد ربوه وأطعموه وسمنوه واسترضعوه… وعندما شاخ ولم يعد ينفع سمنه ولحمه، وشح لبنه وقفوا مكتوفي الأيدي تجاهه، لا بل وأعانوا عليه الخصوم أملاً في تعاون ووفاق وإعادة حساب … بعد أن انهارت منظومة الدول الشيوعية وتفكك حلف وارشو في تسعينات القرن الماضي، وبعد ما حصل من أمر ثورة الاتصالات والفضائيات، ولد عالم جديد تقوده الرأسمالية “المنتصرة” ويسيطر عليه السلاح والمال. لم تعد مواعظ العدالة الإنسانية والحديث عن شيطان الاستغلال تقنع الجائع والعطشان، ولم تعد تطرب أسماع الإنسان وتحركه أناشيد المجد وحب الأجداد والأوطان… إن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم، ليس محاولة للتخفيف من حكم المحكمة بحق الأنظمة العربية أو لتبرير ما إرتكبوه من جرائم ومخالفات ونزوات، وإنما من أجل النزاهة والموضوعية في الحكم على الأمر كي لا نشاركهم الظلم في أفعالنا وأقوالنا، ولكي نتبين درب الخلاص إلى عالم لنا فيه نصيب أكبر من الحرية والكرامة والرخاء. كثير من حكام الأنظمة الذين سقطوا أو هم في طريق السقوط، جاءوا الحكم مفعمين بالأمل ولكن دون التأمل، بالأقوال لكن دون الأفعال…لم يكونوا مقدرين الحمل، ولم يتعودوا جهاد النفس وكبح جماح النساء واستئثار الأهل والأصدقاء…!! و “قرار المحكمة السريالية” جاء، حسب تقديري، مقتصراً في حكمه على الأزلام من حكام النظام، إنها ليست فقط حكاية حاكم ظالم أو سارق أو جاهل… إنها حكاية شعوب تخلفت عن غيرها في ميادين الحياة والإشراق. إن المسألة، يا سادتي الكرام، هي مسألة كرامة وأخلاق قبل أن تكون قضية تقنية أو علوم أو فضاء…إن ما يدفع الناس للتعلم والعمل والإبداع هي مسألة كرامة واحترام للذات قبل كل شيء…وأن ما يحكم نزاهة الناس وإخلاصهم ومحبتهم لغيرهم هي مسألة أخلاق… ورحم الله شاعرنا الكبير أحمد شوقي حين قال: انما الامم الاخلاق ما بقيت فان هموا ذهبت اخلاقهم ذهبوا إن الأنظمة التي سقطت، والتي ستسقط، ليست محصورة في رؤساء الجمهوريات أو الوزرات. إنها منظومات متعاشقة من أخلاق وممارسات وآليات، وهي لا تقتصر على حفنة من نساء ورجال. إنها الآلاف والملايين من الناس في شبكاتها وتوافقاتها. إن فهم ما جرى وما يجري، ومن أجل غد وضاء، يستلزم الوعي والموضوعية والنزاهة في الحكم على الأمور ونسبيتها في الزمان والمكان. عندما تراجعت الاشتراكية والشيوعية كأنظمة سياسية فاعلة وبدأت، في بلداننا آذلك، خطوات في خصخصة المال العام وفتح أبواب الاقتصاد والاستثمار سارعت الذئاب والقطط السمان لتلتهم ما صام عنه الزمان…تعاشق المال وبطانة السلطان، وراحت الحكومات مسترضية الهيئات والمؤسسات، في مالها واقتصادها، فوجد السراق فرصة للنهب والإستثراء، وبات وديع الخراف يتضور الجوع ولا من معين ولا من ملاذ. سياسات الترقيع واطفاء الحرائق، أو القمع هنا أوهناك، لم تعد تنفع الحكام والأسياد، فقد طغى الماء السدود الناصية وغلبها فيضان ثورات المضطهدين المكبوتين الجياع والتي اندست، للأسف، بين ظهرانيها ثعالب وآلاب… إن النهم الإستهلاكي والحاجات والرغبات المتزايدة، لا سيما الحسية منها، والتي أملتها ظروف هيمنة التطورات الاقتصادية في دول النخبة الصناعية وآاسحاتها الثقافية والإعلامية الجبارة جعلت من إرادة الإنسان ومواقفه الذاتية ريشة في مهب الرياح…إن الجوع والحرمان لم يعد مقتصراً على خبز العيش وسقف البناء ورفيق الفراش أو مسكنات الآلام، بل امتد إلى متاع الدنيا في الواقع والأحلام… كان على ” المحكمة السريالية” أن تتخذ كذلك قرارات تسافر في مستقبل الزمان وتقاضي الشعوب إلى جانب الحكام…! تقاضيهم ليس فقط على ما فعلوا، وإنما على ما سوف يفعلون…! على الحكام والشعوب أن يختاروا بوعي وحزم أصحاب القرار، وأن تراجع الأعمال يوماً بيوم قبل أن يطول الأجل ويكبر الحساب…إن من سيطالهم الحساب، إلى جانب الحكام، هم أبناء الشعوب من قضاة ومحامين، من مربين ومعلمين، من بنائين ومهندسين، من كيمياويين وفيزيائيين، من رياضيين واحصائيين، من موجهين وإداريين، من زارعين وصانعين، من بائعين وشارين، من بنات وبنين… إنهم جميعاً أمام محكمة الغد محاسبين… نسأل الله أن نكون وهم من الراضين المرضيين… الظلام لا ينتهي بطعنة خنجر في الخلف أو الأمام… إنه لا ينتهي إلا بإيقاد شمعة تضيء عتمة المكان. فهدم البيت الذي نخرت جدرانه الفئران والجرذان، واخترقت سقوفه مياه الأمطار يجب أن تستصلحه سلامة التشييد ومواد البناء… إن أكثر ما يفرح في هذه الثورات أنها انتفاضات ضد الفساد والظلم والطغيان… وان أكثر ما يخيف فيها غياب البوصلة وجهل الربان، أو أن تكون فرصة لإعادة خلط الأوراق في ساعة ضعف الرقيب وعسر الرهان…! 06/03/2011
أحدث التعليقات