د. نزار محمود
مدير المعهد الثقافي العربي
إنني أتفهم جيداً ما يدفع البعض من أبناء شعبي وأمتي إلى شديد الغضب والإنفعال، لا بل والإشمئزاز
والقرف والتبرؤ من إنتمائه، ومحاولته إغتيال هويته التي نشأ في فضاء ثقافتها من لغة وحضارة وقيم
وتقاليد وإسهام إنساني، لا بل ومحاولته السعي للتنصل من مسؤوليات وتبعيات هذا الإنتماء.
لا أعيش الأوهام، ولا ينبغي للخيال أن يتناسى واقعه ويمرح في أمجاد ماضي هذه الأمة، أو أن يغوص
في أحلام يقظة غير واعية…! ولكنه لا ينبغي للحاضر في تخلفه وفساده أن يرسم لنا حياتنا، التي لم نعد
نفخر بالإنتماء لها، ولم نعد نحس بشعور المسؤولية تجاهها. إن أبناء الشعوب والأمم هم من يرسم لها
حياتها في كرامتها وحريتها، وهم من يحدد لها دورها الإنساني في إنحطاطه أو سموه… إنها مسألة
كرامة إنسانية في واجباتها وحقوقها.
نعم، لم يعد يسر الكثيرين إنتماؤهم للأمة التي ساهم في تجزئتها أبناؤها، وشيد الأغراب المعتدون
عماراتهم على تفرقها وتمزقها وتخلفها. إننا لا نريد لحكامنا أن يكونوا آلهة الأرض في طغيانهم
وجبروتهم ومكرهم ولا رحمتهم وقسوتهم وأنانيتهم وعمالتهم وتخاذلهم، وأن يعشعشوا في كراسي
سلطانهم، ويسفكوا الدماء ويضطهدوا… وأن يتجسسوا ويكمموا الافواه ويعتقلوا ويعذبوا… وأن
يشتروا الذمم ويميتوا الهمم… يسيسوا المنابر ويدنسوا الضمائر، ويطعمو سمان القوم ويجوعوا
رعيانهم…يجهلوا الرعية ويضللوا البصيرة…!
وإذا كان هؤلاء هم حكامنا… فما بالنا نحن عامة القوم…! أليست لنا خطيئاتنا في ما يعبثون به؟
إن الشعوب والأمم في زهوها وانحدارها هي حصيلة وعيها وايمانها وجهدها الحضاري والأخلاقي تجاه
ذاتها وشقيقاتها من الشعوب والأمم الاخرى. والوعي الحي للأمة لا يمكن ان يقوم إلا كمحصلة متفاعلة
لوعي أبنائها وما نضح عن عقولهم من أفكار ورؤى ونتاجات عقلية وروحية، وما جسده واقع حياتهم
من قيم ومعتقدات وسلوكيات. ولعل أثمن تلك القيم هي قيمة الإنسان باعتباره الغاية والوسيلة لصواب
ذلك الوعي وصدقه. فحيثما تلمست للإنسان في مجتمع قيمة، حيثما صح لك أن تقول أنه مجتمع يعم فيه
وعي صائب.
وحسبي أن كاتبنا الراحل محمد الماغوط، لم يقصد بأنه سيخون وطنه!، ولكنه كان يتمنى لوطنه،
بالتأكيد، وعياً آخر ولإنسانه قيمة أخرى…
إن كتاب “إحياء علوم الدين” للإمام بن تيمية لم يكن غير رد فعل على ما وصل إليه حال تدين الأمة من
ترد. هل يكفي كتاب لتنوير درب هذه الأمة؟ ألم تملأ لذلك الصحائف أقلام الكثيرين والكثيرين…؟ هل
حدث أو ربما سيحدث شيء ما؟! سوف لن نفقد الامل…!
إن الدرك الذي انحدرت إليه هذه الأمة لم يكن وليد ليلة أو ضحاها… لقد ساهمت أجيال وأجيال في ما
نحن عليه الآن … ولم يقف الطامعون والساخطون والمتربصون بهذه الأمة موقف المتفرج أو موقف
العطوف النصوح، بل راحوا يقتصون من هذه الأمة ثأرات خوالي الأيام. ففي بعيد الزمان غزوك وأقاموا
في أراضيك. مزقوك اقواماً واستعبدوك… وفي قريب الزمان اعادوا الكرة… استعمروك ونهبوا أرضك
وما أنصفوك…
لازلت أؤمن بمقولة، كنا ولم نزل نسمعها ونرددها: “لا يأس مع الحياة، ولا حياة مع اليأس”…
إن من يعتقد بأن لا حيلة لنا في أمرنا، وأن علينا الإستسلام والرضا، لا يحق له أن يفخر بإنسانيته،
وليس عليه أن يغضب على من لا يكن له الإحترام…
قد نختلف، ولا بد أن نختلف إذا ما أردنا أن نبحث عن حياة أكثر حرية وكرامة وغنى، ولكن لا ينبغي لنا
أن نتخذ من اختلافنا درباً لإقصاء الآخر أو إلغائه لأمر في نفس يعقوب، او بناءً على وصية أو أمر
لطرف ثالث غير صديق…
إن حالك يا أمتي لا يسر ناظراً ولا يشفي سقم عليل… ولكنك يا أمتي قدري، وان أبناءك هم من هو
مسؤول عن رسالتك ودربك الطويل… فهل هناك من مستسلم، أم هل هناك من مستجيب…؟!
إن التاريخ يعلمنا بأن الشعوب والأمم، التي أراد لها أبناؤها الحياة الإنسانية الحرة الكريمة، ما أرتضت
لأنفسها الذل والخضوع والهوان، عندما جار عليها الزمان في أمر انحطاطها… نهضت من كبوتها
وراحت تلملم عوامل قوتها وتنبذ شيئاً فشيئاً أسباب ضعفها، حتى إذا جاءها المخاض وثب وليدها حاملاً
للبشرية بشرى رسالتها الخالدة…
إن الشعب الذي أدافع عنه وأدعوا له هو ذلك الجزء من أمة الإنسان في دوره وعطائه وتضحياته
الإنسانية وفق خصوصياته التأريخية والجغرافية. إن قيمة هذا الشعب لا تزيد عن مقدار ما يعطيه
للآخرين إبداعاً وكرماً. من هنا فإن رفعة أي شعب من الشعوب إنما في درجة تساميه عن اعتدائه
وظلمه وقهره للشعوب الأخرى. إن على الإنسان أن يفخر بإنتمائه لذلك الشعب الذي يسر الآخرين
إنتماؤه له من أبناء الشعوب الأخرى… وهذا ما أتمناه لشعبي الذي أحب أن أنتمي…وعندها سأنادي:
أيها الناس: لن أخون وطني…
د. نزار محمود
28/10/2007
أحدث التعليقات