د. نزار محمود
المعهد الثقافي العربي
إن ما يدفعني للمشاركة في بحث موضوعة خصوصيات الثقافة العربية وإدارتها في ألمانيا جملة من الأسباب:
أولاً: حالة الضبابية التي تغلف هذه الثقافة فهماً وأهدافاً ودوراً وخطاباً وأساليب.
ثانياً: أساليب ممارسة العمل الثقافي من قبل الأفراد والتجمعات والمؤسسات.
ثالثاً: موقف الجهات المعنية الرسمية من عربية وألمانية وتفاعلها مع النشاط الثقافي العربي.
رابعاً: خصوصيات الثقافة العربية في خضم إشكالية الاندماج الاجتماعي والثقافي ومصاعب الحفاظ على الهوية.
وقبل التطرق الموجز إلى هذه الخصوصيات وإنطلاقاً من دوافع مشاركتي التي أشرت إليها لا بد من التأكيد على حقيقة مهمة هي أنه يجب أن يكون لكل عمل إنساني هدف يبرر ممارسته ويعطيه قيمته كي لا يتحول إلى ضرب من العبثية أو إشباع لنرجسية لا طائل منها.
أعيش منذ فترة طويلة في برلين وأشارك إلى هذا الحد أوذاك في الحياة الثقافية العربية في هذه المدينة، وأعرف ان هناك المئات من العلماء والمفكرين والكتاب والصحفيين والفنانين المنحدرين من البلدان العربية المختلفة وهم يشكلون أطيافاً وأنماطاً ثقافية تنسجم تارة وتتنافر تارة أخرى لأسباب موضوعية أو شخصية أوتنظيمية. وليس في هذا الامر من غرابة ولا ينبغي أن يؤدي ذلك إلى إحباط حتمي وكآبة جماعية وتقوقع وانعزال وانطواء، لا بل وغضب ومقاطعة ورفض للقاء والحوار والتعاون.
إننا، وبالتحديد في مدينة برلين، شهدنا كيف أن سير مجرى التاريخ لا يعرف المستحيل. قبل عدد ليس بالكثير من السنين كانت برلين شرقية وغربية، وكانت فوهات البنادق تتحدى بعضها، وكيف تتعايش أفكار ومشارب الناس من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار في كل زاوية وزقاق. أليس ما حصل في برلين عبرة للمراجعة والتأمل بصراحة وشجاعة وصبر ووعي وحضارة وإقدام وتفاؤل.
إن رحلة الحوار عن خصوصيات ثقافتنا العربية في خارج العالم العربي وتحديداً في ألمانيا وبرلين ينبغي أن تحظى بأهمية خاصة. يعيش في ألمانيا ما يقرب من المليون إنسان من أصل عربي، في أجيال مختلفة. والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هي الثقافة بما تعنيه من مفاهيم وقيم ومعارف ومعتقدات وسلوكيات وطرائق وأساليب في التعبير الفني والأدبي والعلمي التي نعيشها ونحتاجها؟ إن الإجابة عن هذا التساؤل تقودنا حتمياً لمناقشة خصوصيات هذه الثقافة في قيمها ومضمونها وخطابها وأساليبها التعبيرية. إنها مهمة ليست سهلة في خضم “هجينية” الثقافة التي تعيشها الأجيال العربية بسبب واقع العيش والتأثر والتفاعل مع المجتمع الألماني.
ولابد بادئ ذي بدء من التذكير بأن للأنسان حاجات مختلفة روحية ونفسية وعقلية وجسدية واجتماعية وثقافية يسعى لاشباعها. هذه الحاجات تتراوح بين تلك التي لا يستطيع الأنسان أن يعيش من دون إشباعها، وبين تلك التي يؤدي عدم إشباعها إلى تصدعات ومشكلات لا تستقيم معها الحياة الإنسانية السعيدة. وهي، أي الحاجات، تختلف كذلك في تطورها وأشكال وحدود إشباعها. فالحاجات العقلية والنفسية والاجتماعية والثقافية هي الحاجات الأكثر عرضةً للتغيير والتطور. فالتطورات العلمية والتقنية كانت سبباً ونتيجةً في تطور الحاجات العقلية مثلاً في آن واحد. كما كان للتطورات الاقتصادية وأساليب العمل آثارها العميقة في التطورات الاجتماعية سواء على مستوى البناء الاجتماعي أو على مستوى القيم والعلاقات والحريات الاجتماعية والفردية، والتي تنعكس بطبيعة الحال على الحاجات الاجتماعية والثقافية والنفسية.
والثقافة العربية شأنها شأن الثقافات الإنسانية الأخرى في تطور دائم، مؤثرة ومتأثرة بتطورات الجوانب الحياتية المختلفة من سياسية واقتصادية وغيرها. إن هذا التأثر بجوانب الحياة الأخرى يضفي حتمياً على الثقافة العربية في بلدان المهجر خصوصيات تتلاءم وطبيعة جوانب حياة المجتمعات غير العربية ودرجات واتجاهات تطورها وقيمها الروحية والتأريخية.
وانطلاقاً من المقدمات النظرية السابقة وواقع الحال الثقافي الذي نعيشه، ومن أجل وضع النقاط على الحروف، كما يقال، فإننا نخلص إلى عدد من المسائل التي تتعلق بالثقافة العربية والنشاط الثقافي ومؤسساته وخصوصياته في بلد المهجر.
فالثقافة العربية في ألمانيا ينبغي أن تتسم بخصوصيات في أهدافها الواقعية ودورها في إدامة شعور الإنتماء من جهة ورسالتها الحضارية من جهة أخرى، الأمر الذي ينعكس بدوره على مضمون هذه الثقافة في إشباعها للحاجات الثقافية الخاصة، وأسلوبها وطرائقها التعبيرية التي تحاكي بمستواها الذهني والفني والإبداعي والجمالي واللغوي عقلية وذوق وحس متلقي الخطاب الثقافي وتؤثر فيه.
وبالعلاقة مع هذه المسألة لا بد من التنويه هنا إلى خصوصيات ثقافات الأجيال. فإذا كان التمايز في مجتمعاتنا العربية يأخذ منحىً تطوري مترابط ومتواصل فإن هذا التمايز يأخذ شكل منحى حاد يقود أحياناً إلى إنفصام ثقافي واجتماعي داخل الأسرة العربية الواحدة في مجتمع المهجر لأسباب وظروف واقعية وغياب للشروط والامكانات الداعمة لديمومة الشعور بالإنتماء والحفاظ على ملامح دامغة للهوية. إن هذه المسألة تزيد من صعوبات تشكيل الخطاب الثقافي في أهدافه ومضمونه وأسلوبه وإدارته، الأمر الذي يتطلب دراية ومؤهلات من نوع متميز يجمع بين خاصية الانتماء إلى روح ثقافة عربية ووعي لمعطيات وشروط واقع المجتمع الألماني الذي تعيش فيه الجالية العربية في أجيالها المختلفة. ولعل إشكالية تعلم اللغة العربية من قبل أبناء الجالية العربية في أهدافها ومناهجها ومؤسساتها ما يعبر عن إحدى خصوصيات وإشكاليات ثقافة الأجيال.
أما المسألة الثانية فهي مسألة النشاط الثقافي في فعالياته ومؤسساته وفي واقعه ومعوقاته وإدارته. فالنشاط الثقافي في أشكاله التعبيرية المختلفة من فكر أو شعر أو قصة أو رواية او مسرح أو سينما أو رسم أو نحت أو موسيقى أو غناء أو تصوير أوغيرها لا ترتفع إلى حدود رضا غالبية الكتاب والفنانين الذين يعيشون في ألمانيا ولا يحظى بتقبل كبير من قبل الكثيرين من أبناء الجالية العربية لأسباب عديدة يتعلق منها ألى ما أشرنا له في إشكاليات المفهوم الثقافي وأهدافه ودوره، ومنها ما يتعلق بأسباب تنظيمية ومالية وسياسية.
كما أن ما يزيد من صعوبات إدارة العمل الثقافي في بلاد المهجر، إضافة إلى ضبابية أهدافه، هو غياب التنسيق في هذا النشاط بين التجمعات والمؤسسات التي يعنيها العمل الثقافي على وجه الخصوص بسبب الإشكاليات السياسية والأمنية والشخصية التي تحكم عمل تجمعاتنا ومؤسساتنا.
ولعل محدودية الإمكانات المالية لأشخاص ومؤسسات العمل الثقافي وغياب الدعم الرسمي العربي شبه التام للنشاط الثقافي العربي بأشكاله المختلفة ما يزيد من معوقات العمل الثقافي العربي في ألمانيا.
يضاف إلى ذلك أن إهمال دور ومصالح مؤسسات البلد المضيف يساهم في إضعاف فاعلية العمل الثقافي العربي ودوره. إن دعم المؤسسات الخاصة الألمانية بدعم العمل الثقافي للبلد المضيف والتعامل معه بوعي وواقعية أمر لا يصح الإستغناء عنه لجملة من الإعتبارات السياسية والحضارية والواقعية.
وفي الختام لا بد من التذكير بأن العمل الثقافي العربي يجب أن يتسم بخصوصيات تأخذ الواقع بالحسبان وأن تلعب دوراً في التعريف بالحضارة العربية واسهاماتها الإنسانية، ولا بد أن يكون عملاً منسقاً يديره الوعي والشعور بالمسؤولية والاقتدار.
كما أن علينا أن نبتعد عن الجمود في تفكيرنا وعن الضياع في رؤانا. لنتجاوز صراعاتنا الشخصية وضغائننا، ولنتحلى بروح متسامية عن كل ما يقزمنا، ولننظر إلى الغد بعيون متفائلة متسامحة تملؤها الثقة بالنفس والمحبة.
أحدث التعليقات