د. نزار محمود
مدير المعهد الثقافي العربي
لم يكن في نية الكثيرين منا أن يقضوا جل حياتهم في بلاد الغربة البعيدة، ولم يتمن أكثرهم أن يوارى تراب الثلج البارد بعيداً عن تكبيرات المآذن واجراس كنائسنا العتيقة، مسلماً كان أم مسيحياً …كنا صغاراً قد حلمنا ببحر تتراكض على حبات رمال سواحله شقراوات البلاد الجميلة اللاتي تنعكس في زرقة عيونهن ملامح وجوهنا المرتدية سمرة أجسادنا المتعطشة بشوق للحرية والنشوة والتمرد…
كم كانت فرحتنا كبيرة أيام الأعياد … ملابس جديدة نهيؤها منذ المساء، وحذاء يغفو قرب الوسادة، كعك العيد والبقلاوة تعاشق اللعاب. نعد نقودنا ونتحسسها عشرين مرة ومرة، ومراجيح العم سهيل ودوارات الهواء والتزحلقات والسينمات لا نشبع منها. آه ما أحلى عيدانيات الأهل والجيران …
نتابع الراديو والتلفاز: أغداً عيد أم ننتظر لبعد الغد؟ كان علينا أن ننتظر أحياناً، وكان لنا أن نطير فرحاً أحياناً أخرى … وهذا هو حكم قاضي القضاة!
كبرنا وكبرت همومنا مع الأيام … آه يا عراق! مكتوب على جبينك المجد والآلام …فاضت الأرض وطغى فيك الطوفان، وجمع الناس أكوام الحطب ليحرقوا إبنك محطم الأوثان، وابتلع حوتك يونس وغلفه الظلام…
إبنك الذي شاخ عقيماً لم يعص الله في إسماعليه الذي انتظره طويلاً طويلاً … وملكك البابلي أراد من شريعته العدل بين الناس، وأبناؤك الذين حفظوا في مكتباتهم ألواح أول من كتب الحرف وعلم الإنسان… باتوا ينتظرون منك إرثهم الذي صانته خوالد الأيام…
آه يا عراق، كم نزفت دماً ودماً، وأفجعت أذنيك صراخات النساء والأطفال… آه يا عراق، إنهض من كبوتك، وثر في وجه المحتلين الغزاة. حسين أنت، صلاح الدين كنت أم نبوخذ الأنصار… قاتلهم بسنحاريبك فلا زال الكثير فيك من الشرفاء والشجعان … آه يا عراق! لن يسكتوا فينا الحياة، لأننا خلقناها بإذن الله، ولن يطفئوا النور في عيون أطفالنا، لأنهم اقسموا أن الله لم يخلقهم حباً بالفناء …
في غفوة طرت إلى ديوان العباس، التقيت بباني بغداد سألني: كيف هي حال دار السلام والأمال؟ آه .. ماذا أقول لك يا أبا الجعفر المنصور وقد غطت الجثث الأحياء والطرقات.
وماذا عن مكتباتنا؟ نهض المأمون متسائلاً. قلت له: لقد مزق الغوغاءً صفحات آثارنا، وحرقوا مجلدات كتبنا، بغياً وحقداً دفيناً مبيت النيات.
وأعراضنا؟ صرخ المعتصم مذعوراً … تجمدت حزينا وقلت: لقد صمتت النساء لأنه لم يعد هناك من ينتخي لـ “وا معتصماه”!
في حفلة المساء وقف الساهر ليغني قصيدة للسياب، على ألحان البشير وأوتار زرياب…
آه يا عراق، كم هو جميل سهلك وجبلك، كم هي جميلة أنهارك المعطاء …
إن عبيد الكريم والسلام والرحمن، وأبناء حسن وحسين والطالباني هم أبناؤك يا عراق، فهم أبناء كوتك وأنبارك وصلاح دينك وسليمانيتك، مشكورين في ما أحسنوا، ومسامحين من كرمك …وغداً إبن البصرة وذي قار ونينوى الحدباء يكملون مسيرة المشوار…
آه يا عراق …. نحتفل بأضحاك رغم الجراح
بقلم: د. نزار محمود
يرلين، 31/12/2006
أحدث التعليقات