د. نزار محمود
المعهد الثقافي العربي في برلين
كانت لي في صباي ذات الاحلام التي تعيشها جميع الفتيات في هذا العالم: أن أتعرف بفارس أحلامي
الذي أعيش معه حبا طوال حياتي، وأن يكون لي اطفالا أصحاء وبيتا جميلا يتسع لجميع أفراد أسرتي، وربما سيارة وبعض المال الذي نستطيع به أن نعيش حياة هنيئة بعض الشيء.
درست في الجامعة لأصبح كيمياوية بعد أن أنهيت مدرستي بتفوق ملحوظ. عام 1980 كان عام زواجي الذي انتظرته طويلاً، ولكن معه بدأت حرب طويلة. زوجي الذي قاسمني سعادتي إضطر أن يذهب الى الجيش فبات الخوف على الدوام يرافقني، تارة أحلم بأن زوجي سيعود جريحا أو معوقا، وتارة أخرى أنه لن يعود وأنه سيسقط قتيلاً.
نهاية صيف عام 1988 هبت رياح أمل، عندما توقفت الحرب بين العراق وإيران، وراح الناس يتنفسون الصعداء، لكن فرحتهم لم تدم طويلا من الزمن، حيث اجتاحت القوات العراقية الكويت، وكان على زوجي أن يلتحق ثانية بالجيش وعلى وجه السرعة.
عام 1990 رزقت بطفلي الثاني، وتوجب علي أن أهتم بكل شؤون الأسرة. لم يكن لدينا كثير من المال الذي نقوى به على تكاليف الحياة. فلم يعد بمقدور زوجي أن يحصل على مال كاف لتلبية طلبات الأسرة والاولاد. وشارفت على الانهيار، ولم أكن لأتصور أن تؤول حالنا إلى ما نحن عليه، حيث الحرب ورعب الحياة.
لم يمض وقت طويل على احتلال القوات العراقية للكويت، حيث شن الامريكان وحلفاؤهم بداية عام 1991 حربا شاملة مدمرة ضد العراق، فكان أن ألقيت آلاف الأطنان من القنابل والصواريخ. ولم تفرق تلك الرصاصات بين عسكري ومدني أو بين رجل وإمرأة، و بين شيخ أو طفل رضيع، ولم تفرق بين معسكر ومدرسة أو بين مصنع ومستشفى أو محطة ماء أو كهرباء أو وقود أو فرن خباز.
انقطعت مياه الشرب واختفى ضياء الكهرباء وتوقفت عربات الاسعاف وبات الموت حاضراً في كل شارع وزقاق. وزارتنا الفجيعة بمقتل زوجي وتتوجت المأساة.
كان علي أن أبيع عام 1993 كل ما أملك بعد أن فقدت الأمل في العيش في وطني العراق. وكانت رحلتي مع أولادي من تركيا إلى ألمانيا مغامرة أفلام. لم يكن لدينا أي تصورعن ما ينتظرنا في هذه البلاد البعيدة من أجل الحصول على جوازات سفر لي ولطفليٌ. تقدمنا بطلبات لجوء سياسي وابتدأت رحلة جديدة من عذاب الاوراق والقرارات. وكان علينا أن نتكيف مع بشر آخرين وطقس بارد وثقافة غريبة ولغة خشنة وكان أكثر ما يؤرقني هم أولادي في تربيتهم ومستقبلهم.
بعد أن حصلنا على رخصة الاقامة بدأنا تعلم اللغة الالمانية، وسمح لأولادي بالذهاب إلى المدرسة، وبدأت أتصل هاتفياً بأهلي في العراق مرة كل أسبوع ودموعي تبلل الكلمات.
وجاءت الحرب الثانية واحتل الامريكان والحلفاء العراق وبغداد. أمل وحزن وحيرة تاهت مشاعري. أمل بحلم العودة إلى وطني ، وحزن بما حل بالعراق ودوامة الموت والاحتلال، وحيرة بين أملي ومستقبل الاولاد. لم أعد أعرف ما هو الصواب وما هو الخطأ. ألتقي بعدد من المعارف من العراقيين والفلسطينيين وأحس أنهم يشاطروني مشاعري الحائرة. كثير منا يسألون أنفسهم :إلى أين تسير بنا سفينة الحياة؟
إن حيرتي لايطفئها سوى إيماني بأن الأمل آخر من يموت، وأن لكل إنسان قدر في هذه الحياة.
أحدث التعليقات