الأقلام السوداء… مثقفوا الطابور الخامس في جاليتنا العربية
د. نزار محمود
مدير المعهد الثقافي العربي
ليس لمجموعة بشرية أن تتقدم وتلعب دوراً إنسانياً متميزاً دون شروط ثلاث: الكرامة الإنسانية
والاستعداد الحضاري والنقد البناء. فعندما تفقد تلك المجموعة (شعب أو أمة) الشعور بكرامتها
الإنسانية يكون أمر أن تساهم في خلق أو إبداع أو إضافة حضارية ضرباً من الخيال أو العبثية. ولكي
ترتسم ملامح هويتها الجمعية المتميزة لا بد لها من شروط واستعدادات على المستويات الروحية
والفكرية والقانونية والسياسية والاقتصادية، والتي لا تستقيم بدورها دون نضجها الأخلاقي والعقلي.
ولعل تحري أمر هذين الشرطين وبنائهما لا يقوم إلا على أعمال مراجعة الذات الجمعية والنقد الإيجابي
لقيمها وسلوآها بالوعي والجرأة والصراحة البناءة. فالنقد الهدام يحمل بين طياته بذور دوافعه القاتلة،
ويؤدي إلى حالة رفض أو تثبيط للعزائم والهمم، لا بل وإلى أحقاد تحرق نارها الجميع. وهنا يلعب
مثقفوا الطابور الخامس دورهم وتشرع أقلامهم السوداء بالطعن والتزوير.
تمرالأمم البشرية بمراحل تاريخية بين هبوط وصعود، حركة وسكون، نمو واضمحلال، لأسباب كثيرة لا
تخفى على المتتبعين والدارسين. فلكل مرحلة سماتها وأسبابها. وهذه المراحل التاريخية لا تبنيها أيام ولا
يشكلها عدد من السنين. فكم من حضارة سادت ثم بادت، وكم من أمة شعت بعلومها وآدابها ثم خفت بعد حين أنوارها. في فترات الإزدهار تصبح هذه الأمم محط أنظار غيرها وابنائهم، يأتون لها ويعيشون جسداً
وفكراً بين ظهرانيها، ويتكلمون ويفكرون بلغتها، وحتى يدينون بدياناتها وقيمها وثقافاتها عموماً، لا بل
يدعون الإنتساب لها ويفخرون بذلك، ويساهمون طوعاً وطموحاً في بناء تلك الأمم. وحين تمر تلك الأمم
بمراحل الضعف والهوان، والتي يكون قد ساهم بعضهم في نخرها، ترى من لا يحبها يسارع إلى التبرؤ
منها وطعنها، بدلاً من الوفاء لها ونصرتها. هؤلاء النفر ممن ينظوون تحت لواء الطابور الخامس، هذه
الأيام، كان قد تجول أمثالهم منذ القدم في شوارع بابل وآشور وروما وأثينا ومكة وبغداد ومصر الكنانة
وجزائر الأحرار.
وفي هذا السياق كانت لأمة العرب دوراتها الحضارية في أسبابها وظروفها. فمنذ مئات السنين تسبت هذه
الأمة. فلا دور إنساني خلاق ولا إبداع ولا مساهمات تتناسب وحجمها وتاريخها وحضارتها. تخلف
ضرب بأطنابه كل سماء، وهوان أضاع معه الحقوق والأوطان. فأسوارنا وحصوننا التي احتمينا خلفها لم
تصمد أمام غزونا واستعمارنا بسبب تخاذلنا وانهزامنا ودور الطابور الخامس من أبنائنا وضيوفنا.
إن وضعنا، الذي لا نحسد عليه، دفع بالكثيرين من أبناء هذه الأمة لانتقادها حد الهدم وجلد الذات
بماسوخية لا طائل منها. يقابلهم، وعلى العكس من ذلك، فريق لا يرى في هذه الأمة غير الفضائل،
ويرفض كل نقد بناء، لا بل يروح مطبلاً ومزمراً في أمجاد الماضي ليعكسه إرثاً للحاضر ويفرضه حقاً
على الآخرين.
وفي خضم أحوال الضعف والتشتت والمهانة لم يبق لغير أبناء العرب الذين يعيشون في كنفها من دافع
للإنتساب إلى ثقافة هذه الأمة المتسارع انحدارها وتأخرها، ولم يعد لهم من شعور بالفخر تجاه
خصوصياتها وقيمها وأعرافها، وحتى أصبح يحلو للبعض المساهمة بالتشهير والطعن بها، ربما بسبب من
شعور بالاستلاب الثقافي في العقل الواعي أو اللاواعي، أو لأهداف ومصالح دفينة ومبيتة. إن جميع من لا
يحبون هذه الأمة ورسالتها الإنسانية ويسعون لايذائها وتفتيتها وطمسها تراهم أشد المعينين لأبنائها
ورعاياها ممن لا هم لهم سوى كشف عورات هذه الأمة وإختلاق ما يعيبها ويشوه صورتها. فما من
سياسي أو مفكر أو كاتب أو مخرج أو ممثل أو فنان إنهال بمعوله على جدار هذه الأمة إلا ورفعوا من
شأنه وقلدوه الأوسمة والجوائز وحملوه وافر المال والجاه والشهرة… لكنه، يدري أو لا يدري، انحدر إلى
ما لا يشرف مقاماً…
من هؤلاء من يعيش بيننا، نحن أبناء جاليات البلدان العربية في ألمانيا. فالأقلام السوداء لمثقفي الطابور
الخامس لا تقتصر على كتابة مقال هنا أو تأليف آتاب هناك، وإنما تتعداها إلى كل اشكال وأدوات التعبير
عن ما تنضح به هذه الآنية من افلام ومسرحيات وأعمال نحت أو رسم أو تشكيل أو منتج إذاعي أو تلفزي
أو موسيقي أو غنائي أو نقاشات أو مداخلات.
إن هذه الجماعة من المهزومين أو الضالين أو الحاقدين أو العاجزين أو المدسوسين أو المنتفعين أو
المستلبين (بفتح اللام) ثقافياً من غير الواثقين من دورهم الإنساني أو المرتزقة والمأجورين لن يكتب لهم
الإحترام الذاتي أو احترام الصادقين لهم. وهم جمع رفع الراية “البيضاء” إستسلاماً، كم حمل الخناجر
المسمومة، أو رغبة في العبور إلى ضفة غير المحبين لكل ما هو عربي أو مسلم. فمعاول الهدم العابثة لن تبني جداراً ولن تقيم بناءً، وحسبها إرواء الغل وتصفية حسابات غير منصفة أو التجارة الفاسدة.
صحيح أن الجزء الأكبر من جالياتنا العربية لم يأت طوعاً إلى ألمانيا، وأن ظروفنا السياسية والاقتصادية
والاجتماعية والثقافية والتاريخية وانظمتنا العربية، إلى جانب خصوصية القضية الفلسطينية، قد لعبت
دوراً كبيراً في هذا الإغتراب، إلا أن ذلك لا يجب أن يكون مبرراً للتشكيك والطعن بمسلمات قيمنا
وحضارتنا ودورنا الإنساني.
إن انتهاز فرصة تخلف هذه الأمة في الوقت الحاضر وبالتالي تقاعسها عن اللحاق بركب التقدم
الإنساني، يجب أن لا يفتح المجال للمتربصين والمتصيدين بالماء العكر للنيل من كرامة هذه الأمة
ودورها الحضاري الذي يعيش حالة هوانه. ولنتذكر جميعاً أن غياب دور أية أمة هو خسارة إنسانية
لجميع البشر. في المقابل لا ينبغي أن يتخذ من الدعوة لإلقاء الضوء على الجوانب المشرقة للحضارة
العربية والإسلامية منحى الدعاية العنصرية الجوفاء ولا سرد وقائع وأحداث ومواقف غير صادقة.
فتضليل القراء بأكاذيب وأوهام وشعارات مهلهلة تسيء لأية حضارة إنسانية ولا تخدم إبراز دورها
المشرف.
واذا كان رد مثقفي الطابور الخامس أنهم إنما يفعلوا ذلك “للتنوير وعرض الحقائق كما هي!!” نقول لهم:
إن هناك ما يكفي من المؤسسات والأقلام، لا بل والدول، التي لا تدخر الجهد والمال لشن الحملات
الشعواء، وتسخير طاقاتها البحثية “والعلمية” والإعلامية، بحق أحياناً ودون حق في أغلب الأحيان، ضد
هويتنا ووجودنا الثقافي ودورنا الحضاري الإنساني…
إن مقال الأخ الشاعر العراقي “كريم الأسدي” الذي صدر في مجلة الدليل في عددها السابق وتحت
عنوان: قراءة تحليلية في عملية التكامل، جدير بالقراءة والتأمل.
إنني اهيب بكل صاحب ضمير، واع ومنصف، أبي ووفي، كريم وصاحب كرامة، أن يشعل شمعة ثقافته
التي تقع عليه مسؤولية ايقادها ليؤدي دوره الإنساني الذي يقوم به أبناء الثقافات الأخرى.
فهل نحن سامعون، وإذا كنا قد سمعنا، فهل نحن واعون وفاعلون؟!…….. نتمنى ذلك.
9/3/2009
أحدث التعليقات