د. نزار محمود
المعهد الثقافي العربي في برلين
مضى شهر رمضان وقد أصبح من التقليد فيه أن يملأ شاشاتنا الفضائية العربية طيف من المسلسلات والحكايات والبرامج المختلفة، منها الغث ومنها السمين، منها ما يضيع الوقت بلا طائل، ومنها ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
وشهر رمضان الكريم، شهر عبادات متميزة في صيامه وقيامه وتقاليده ولهوه الذي لا يغضب الله ورسوله. وكثيراً ما نسمع أن برامج الفضائيات هي من قبيل اللهو المبعد عن ذكر الله وتأدية فرائض وسنن رمضان. وهي بذلك من المكروهات، لا بل يصل بعضنا في سوء التعامل معه حد المحرمات، عندما تلهي عن أداء حتى الفرائض والواجبات. الفيصل إذن، هو كيف نتعامل مع هذه البرامج، وأي البرامج نتابع، ومتى، وكيف نتأثر بما تعرضه وتوحي به من أفكار وقيم وسلوكيات، وما تثيره من نوازع وميول وعواطف ووجدان.
حديثنا اليوم عن المسلسل السوري “باب الحارة” في جزئه الثاني، الذي تابعه بشغف وحرص الملايين من الناس، خلال شهر رمضان. لا أقول إنه المسلسل الوحيد الذي استحق المتابعة، ولكنه من بين المسلسلات القليلة جداً التي نجحت في إيصال شيء ما لشريحة من شرائح المشاهدين.
مسلسل “باب الحارة” يروي صوراً عن الحياة الاجتماعية والسياسية لاحدى الحارات (حارة الضبع) خلال فترة الاحتلال الفرنسي لسورية بداية القرن العشرين، وبالتحديد حياة سكان حارة، وأسرها في تنظيمها الاجتماعي وقيمها وعاداتها وطرق معيشتها وإدارة علاقاتها التي تمثلت في “عقيد الحارة” و”الشيخ ” و”رئيس مخفر الشرطة”.
“أبو شهاب” عقيد الحارة مثل إرادة أبناء الحارة فكان مرجعهم “الوطني”، حيث كان عليه أن يكون حكيماً، أبياً، شهماً، حازماً، عادلاً، شجاعاً، مضحياً، كريماً.
” شيخ الحارة” مثل صورة جميلة لرجل الدين الفاضل في حل المشاكل الاجتماعية وتقريب وجهات نظر الناس المختلفة وتعزيز الأواصر والمحبة بين سكان الحارة. ولم يكن الشيخ أداة في يد عقيد الحارة أو رقيب الاحتلال، كما لم يكن ظل الله على الأرض.
أما ” رئيس مخفر الشرطة” رقيب الإحتلال، فقد مثل صورة للتجسس وابتزاز الناس والرشاوي وزرع الفتن.
إن صور الحياة وعلاقات الإجتماعية التي عرضها مسلسل “باب الحارة” جاءت تعبيراً عن مرحلة زمنية ماضية، ولا ينبغي لها أن تكون إملاءً لعلاقات اليوم بين الناس. إلا أن ما لا يجب أن “تغتاله” ظروف تطور الزمان هي تلك القيم الإنسانية الخالدة التي تحافظ على حرية وكرامة الإنسان ودوره البناء في الحياة البشرية في إطار شعور بالانتماء لمجموعة إنسانية متميزة. فالقيم الفاضلة التي سحرت وتسحر الناس تمثلت بقيم ومواقف الشهامة والرجولة والنخوة والتضحية والعدالة والتعاون والإباء والوطنية والشجاعة ونصرة الحق.
كما لم تغب في صور هذه الحياة تلك الصفات والنوازع الإنسانية السلبية، لكنها الواقعية في حياة البشر، من غيبة أو نميمة أو نفاق أو غيرة أو حسد أو تسلط أبوي أو رغبة في الثأر وحتى العمالة للأجنبي.
من هنا فإن قصة المسلسل وعبرها التاريخية، وما نقله سيناريو المسلسل من قيم فاضلة، وما سلط عليه الضوء من قيم وسلوكيات، وروعة أداء الممثلين والممثلات، وبراعة تقنيات الصوت والصورة والإضاءة والديكور والملابس، كلها أمور تستحق منا التقدير والثناء.
إن إنتصار المسلسل لقيم الخير والفضيلة دفع بسفينة حياة الحارة وأبنائها إلى شاطئ العزة والحياة الكريمة والأمان والسعادة.
نحن المشاهدون، كالنقاد والمحللين والممولين وصناع القرار، يمكن أن نلعب دوراً أساسياً في إنتاج المسلسلات والأفلام. فعندما لا نتابع هذه الأعمال، وعندما لا نحضر عروض تلك الأفلام، فإننا نسهم في انتشار السيء منها. إن علينا واجب دعم الطيب المبدع فيها، ورفض الخبيث الهابط منها. أليس ذلك حق لنا أيضاً؟!.
مبروك لحارة “الضبع” رجالها، ولـ “أبي النار”، عقيد الحارة المجاورة، نخوته ورجاله في فك أسرعقيد حارة الضبع من قبل الانكليز وهو في طريقه لنقل أسلحة إلى المجاهدين في فلسطين، رغم الخلافات والثارات بين الحارتين…
مبروك للعرب بلاد الشام، ولأبناء الشام إبداعهم وأصالة أعمالهم الإنسانية.
أحدث التعليقات