د. نزار محمود
المعهد الثقافي العربي
برلين 1998
مقدمة:
أود بهذه الملاحظات حول ظروف حياة العرب المسلمين في ألمانيا، حيث أقيم منذ ثلاثة عشر عاماً، المساهمة في إلقاء الضوء على طبيعة وخصوصية المشاكل الحياتية من حضارية واجتماعية واقتصادية وسياسية. وأملي أن تفتح هذه المساهمة الباب لمزيد من المساهمات الطيبة لما لهذا الموضوع من أهمية كبيرة، ولإيماني بأن هناك من الأخوة والأخوات ممن يمكن أن يساهم في إغناء الموضوع من خلال خبراته وآرائه.
وتجدر الاشارة إلى أن ملاحظاتي وما سأذهب اليه من آراء هو حصيلة خبراتي الشخصية والاجتماعية التي أتمنى أن تكون موفقة في صحتها ومخلصة في ما تصبو إليه بما ينفع العرب المسلمين والبلد الذي يعيشون فيه.
كما أحب أن أشير منذ البدء إلى مسألة موضوعية هامة قبل التسرع بالحكم على هذا أو ذاك من الناس، أو على هذه أو تلك من الظواهر الاجتماعية ألا وهي مسألة اختلاف الواقع الاجتماعي في هذا البلد في قيمه وأعرافه الروحية والأخلاقية والتربوية والسياسية والاقتصادية والتاريخية وإفرازات ذلك وإنعكاساته على تحديد معنى الحياة ودوافعها وحوافزها عن واقع بلداننا الاجتماعية.
محاور الموضوع:
إن الخوض في موضوع كهذا يتطلب بلا شك وقتاً طويلاً ونقاشاً متعدد الجوانب والآراء، وسأسعى إلى التطرق _بإيجازٍ شديد_ إلى بعض المحاور المهمة في نقاطٍ محددة. وقد تشكل الإجابات عن مثل هذه الأسئلة التالية محاور الحديث:
أولاً: من هم العرب المسلمون الذين يقيمون في ألمانيا؟ من أين قدموا، وما هي دوافع هجرتهم إلى هذا البلد؟
ثانياً: كيف يعيش هؤلاء العرب المسلمون اقتصادياً واجتماعياً وقانونياً؟
ثالثاً: ما هي طبيعة مشاكل هؤلاء الناس سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وتربوياً وحضارياً وروحياً؟
رابعاً: ما هو مستقبل حياة العرب المسلمين في ألمانيا، وكيف تبدو صورة ذلك المستقبل اجتماعياً وحضارياً؟
المحور الأول:
العرب المقيمون في ألمانيا ودوافع هجرتهم
يعيش في الوقت الحاضر مئات الآلاف من العرب المسلمين موزعين على المقاطعات الألمانية، لاسيما في العاصمة برلين. ويشكل الفلسطينيون القادمون من الأرض المحتلة ولبنان نسبة كبيرة من هؤلاء العرب المسلمين بعد حرب عام 1948 وحرب عام 1967 وإندلاع الحرب الأهلية في لبنان والإجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان عام 1982 وحرب الخليج الثانية عام 1990. أما بقية هؤلاء العرب فغالبيتهم أتوا بادىء الأمر لأغراض الدراسة أو العمل ثم إستقروا في هذا البلد لأسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية. ويشكل المصريون والسوريون والعراقيون وكذلك التونسيون والجزائريون والمغاربة والسودانيون تقريباً النسبة الباقية.
من هنا نستطيع الوقوف على جملة من دوافع وحوافز هجرة العرب المسلمين، والتي يمكن تقسيمها إلى مجموعتين أساسيتين:
المجموعة الأولى
الدوافع المحلية: ونعني بها الظروف الحياتية في البلدان التي انحدر عنها هؤلاء العرب.
المجموعة الثانية
الحوافز الخارجية: ونعني بها ظروف وحوافز بلد الهجرة أي ألمانيا في موضوعنا.
فالظروف السياسية والعسكرية الدولية وخصوصيات المشكلة الفلسطينية وتعقيداتها – كما هو معلوم – والظروف الاقتصادية والمعيشية والتعليمية المتردية دفعت بمئات الآلاف من الفلسطينيين للهجرة إلى أوروبا ومنها ألمانيا بطرق وأساليب مختلفة وفي مقدمتها اللجوء السياسي والإنساني.
إلى جانب ذلك فإن الحوافز الخارجية المتمثلة بالحياة الآمنة والرخاء المعاشي نسبياً وفرص التعلم والعمل والضمان الاجتماعي ومغريات الحياة وملذاتها الحسية والحرية الفردية والاجتماعية قد شكلت الجانب الآخر من أسباب الهجرة.
أما بقية العرب المسلمين فغالبيتهم أتوا بادىء الأمر لأغراض الدراسة أو العمل ثم استقروا في هذا البلد لأسبابٍ اجتماعية أو اقتصاديةٍ أو سياسيةٍ أو بسبب عدم تمكنهم إنهاء الدراسة لهذا السبب أو ذاك. ويشكل المصريون والعراقيون والسوريون والسودانيون واليمنيون وكذلك التونسيون والجزائريون والمغاربة الجزء الأكبر من هذه البقية.
من هنا نستطيع الوقوف على جملةٍ من دوافع الهجرة لهؤلاء العرب، حيث يمكننا تقسيمها إلى مجموعتين أساسيتين:
المجموعة الأولى
الدوافع المحلية: وأعني بها الظروف السياسية والاجتماعية والمعيشية في البلدان التي انحدر عنها هؤلاء العرب.
المجموعة الثانية
الدوافع الخارجية: وأعني بها الظروف الحياتية وحوافزها في بلد الهجرة، وأريد بها هنا ألمانيا.
إن الظروف السياسية والعسكرية الاستثنائية والمعقدة والظروف الاقتصادية والمعيشية والتعليمية المتردية دفعت بمئات الآلاف من الفلسطينيين للهجرة إلى أوروبا ومنها ألمانيا بطرق وأساليب مختلفة وفي مقدمتها اللجوء السياسي والإنساني.
كما لعبت بالمقابل آفاق العيش الآمن والضمان المعيشي والاجتماعي وفرص العمل والتعلم إلى جانب مغريات الحياة وملذاتها الظاهرية والحرية الفردية والاجتماعية دورها التحفيزي في هذه الهجرة.
أما تأثيرات الإعلام الخارجي بكل وسائله المباشرة وغير المباشرة وكذلك الظروف الدولية الراهنة فيمكن اعتبارها هي الأخرى حوافز خارجية.
إن الإنسان الذي لا يحس بقناعةٍ سياسية في البلد الذي يعيش فيه، ولا أمناً نفسياً أو جسدياً ولا يستطيع إشباعاً لحاجاته في تكوين أسرة والحصول على مأوى وعمل كريم وضمان اجتماعي له ولأسرته وحاجات أخرى تلعب عوامل كثيرة في تحديدها وأسبقياتها، لا يتوانى عن التفكير في الهجرة ومحاولة ذلك.
المحور الثاني
كيف يعيش العرب المسلمون اقتصادياً واجتماعياً وقانونياً؟
أود قبل أن أتكلم عن حياة العرب المسلمين الاقتصادية والاجتماعية أن أتطرق إلى بعض هذه الجوانب في ما يتعلق بألمانيا بصورة عامة.
فألمانيا -كما هو معروف – واحدة من أكبر الدول الصناعية في العالم، تتمتع باقتصادٍ متين وعملةٍ مستقرة ومعدلات تضخم منخفضة نسبياً. ويحكم اقتصادها نظام ما يسمى اقتصاد السوق الاجتماعي القائم على الحرية تاجية الفرد تزيد عن 40 ألف مارك سنوياً. وهي ثاني أكبر مصدّر في العالم حيث تزيد صادراتها عن 650 مليار مارك سنوياً يذهب الجزء الأكبر منها إلى بلدان أوروبا الغربية.
أما ما تعانيه ألمانيا في الوقت الحاضر من ارتفاع نسبة البطالة النسبية وبلوغ عدد العاطلين عن العمل 4 ملايين، فإن هذه النسبة لازالت ليست عالية بالمقارنة مع الدول الأوروبية الأخرى، مع العلم أن هناك نسبة نمو اقتصادي تزيد عن 2% سنوياً. كما أنه من المعروف أن الصناعات الإلكترونية والميكانيكية الثقيلة والكيماوية وصناعات السيارات والأدوية تشكل أهم صناعات ألمانيا وأهم قطاعاتها الاقتصادية، وهو أمر ينعكس بالتالي على طبيعة القوى العاملة في هذه القطاعات ومؤهلاتها العلمية وخبراتها العملية وشروطها الأخرى.
وبموجب الشروط والإمكانات الاقتصادية التي أشرت إليها تلعب ألمانيا دوراً متميزاً في عملية الوحدة الأوروبية سياسياً وقانونياً واقتصادياً ومالياً، وانعكاسات ذلك على التشريعات الأوروبية بخصوص التعامل مع الوافدين إلى أوروبا من الأجانب ومنهم العرب المسلمين.
أما في ما يخص الحالة الاجتماعية في ألمانيا باعتبارها دولةً أوروبية، فإن الشعب الألماني تحكمه اجتماعياً قيم ومفاهيم ومعايير تختلف عنها في مجتمعاتنا العربية الإسلامية. فالمادية والعقلانية والموضوعية والجوانب الحسية هي أكثر ما يحدد العلاقات الاجتماعية بين الناس في ألمانيا. ولا أريد القول بهذا أنهم شعب يفتقد إلى أية قيم روحية أو مشاعر أو أحاسيس أو عواطف إنسانية، ولكني وددت التركيز على المجموعة الأولى من محددات الميكانيكية الاجتماعية لهذا الشعب لاسيما وأني بصدد الحديث عن الحياة الاجتماعية للعرب المسلمين في ألمانيا.
فالعائلة القائمة على أساس ديني شرعي أو حتى رسمي فقط ليست ضرورة في الكيان الاجتماعي الألماني. ففي كثير من حالات الزيجة الرسمية يكون الدافع المالي هو الدافع الأساس في ذلك. والعائلة الألمانية قليلة أو معدومة الأطفال، ولذلك فإن عدد سكان ألمانيا في تناقص. ويلعب الأجانب المقيمون في ألمانيا دوراً كبيراً في إنجاب الأطفال بنسبةٍ مرتفعة نسبياً، وهو أمر تتدارسه الجهات الألمانية المختصة بإستمرار واحتساب.
أما من ناحية علاقات الجيرة وصلة الرحم فإنها ضعيفة، وهو أمر يترتب عليه كثير من مشاكل الإنعزال والوحدة.
ورغم إنتماء الغالبية من الشعب الألماني إلى الديانة المسيحية فإن هذا الشعب غير متعصب دينياً بل يميل إلى الإعتزاز القومي بدرجة أكبر.
بعد هذه اللمحة السريعة عن الحالة الاقتصادية والاجتماعية لألمانيا، نعود للحديث عن الوضع الاقتصادي والاجتماعي للعرب المسلمين المقيمين في هذا البلد.
من الطبيعي أن هناك اختلافات وفوارق في طبيعة الحياة الاقتصادية والاجتماعية لهؤلاء العرب المسلمين تبعاً لإنحداراتهم الاجتماعية والجغرافية ومستوياتهم التعلمية والمهنية ودوافع وظروف قدومهم وأهداف وظروف هذه الإقامة. وسأحاول قدر الإمكان التحدث عن السمات الغالبة لهذه الظروف. فكما سبقت الإشارة فإن غالبية العرب المسلمين في هذا البلد يشكلها النازحون لظروف سياسية ومعيشية وأمنية، حيث قدموا مع عوائلهم وأبنائهم في ظروف صعبة لم تتوفر للغالبية منهم شروط التعلم والتأهيل والدراسة ودخلوا هذه البلاد المتقدمة صناعياً وتكنولوجياً كلاجئين سياسيين، وغالباً ما يطول أمر البت في هذا اللجوء، الأمر الذي يعني عدم السماح لهم بالعمل الرسمي الكامل أو الدراسة أو التأهيل وبالتالي عدم الوضوح الكافي في تحديد مستقبلهم. إن هؤلاء يتقاضون مساعدات اجتماعية وغالباً ما يعملون بصورة غير رسمية في مجالات المطاعم والبناء وسيارات الأجرة وغيرها من الأعمال المشابهة.
أما العوائل العربية التي جرى أمر البت في لجوئها السياسي فالعاملين من رجالها يعملون في مصالح خاصة تجارية أو حرفية أو هم عاطلون عن العمل ويتقاضون إعانات بطالة أو إعانات اجتماعية، ناهيك عن ندرة حالات عمل النساء المسلمات العربيات المتزوجات.
وبالنسبة للآخرين من العرب المسلمين المقيمين الذين كانوا قد قدموا لأغراض الدراسة أو العمل فإن غالبيتهم متزوجون أو كانوا قد تزوجوا بنساء ألمانيات لغرض الحصول على الإقامة الدائمة ورخص العمل غالباً. وهؤلاء تختلف حياتهم اقتصادياً واجتماعياً في جوانب متعددة لاختلاف دوافع وظرف قدومهم إلى هذا البلد وشروط إقامتهم وتأثير الزيجة والاختلاط الاجتماعي بالعائلات الألمانية. فكثير من هؤلاء العرب المسلمين كان قد قدم شاباً وإبتدأ دراسة أو عملاً ما، وقد يكون قد أنهى تعليمه وحصل على شهادة في مجال تخصصه، وقد يعمل أو هو عاطل عن العمل أو قد تعمل زوجته وله غالباً حياته الاجتماعية المتأثرة بظروف وواقع تركيب عائلته.
كما أن هناك من العرب المسلمين من يعود بالزواج من إمرأة مسلمة بعد أن يكون قد حصل على الجنسية الألمانية وطلق المرأة الألمانية.
إن الصورة الاجتماعية للعائلة التي يكون فيها رب الأسرة عربياً مسلماً وتكون المرأة ألمانية صورة اجتماعية خاصة، سواء في سلوكها أو علاقاتها أو الصورة التربوية لأطفالها. هذه هي القاعدة ولكل قاعدة شواذ.
كما أن الرجل العربي المسلم الذي عاش فترة طويلة مع إمرأة ألمانية وعاد وتزوج بإمرأة عربية مسلمة هو الآخر يختلف في قيمه وسلوكه ونظرته لكثير من أمور الحياة عن مثيله في المجتمعات أو العائلات العربية المسلمة.
ولعل اللقاءات الاجتماعية أو التجمعات العربية الاسلامية التي تتيحها الجوامع والمساجد وبعض الجمعيات لا بل وحتى المصالح التجارية ما يساعد على تقوية نوع من الترابط الاجتماعي القائم على الانتماء العربي الاسلامي.
إنه في الوقت الذي تجري المناداة فيه بتجاوز الظروف التي تدفع بالعرب المسلمين إلى ترك أوطانهم والهجرة إلى مجتمعات أخرى يتوجب كذلك أن تقوم مؤسسات ونشاطات تتيح فرص العمل والاستفادة من طاقات وخبرات هؤلاء العرب المسلمين سواء في ألمانيا أو في بلداننا العربية الإسلامية أو على الأقل تفضيل هذا التشغيل في إطار علاقات بلداننا العربية الإسلامية التجارية مع المؤسسات والشركات الألمانية.
كما أن دعم النشاطات الاجتماعية والثقافية للجمعيات والمراكز العربية الإسلامية سيساهم في إدامة روح الانتماء العربي الإسلامي وقيمه وأخلاقياته ويشجع على التلاحم والتصاهر الاجتماعي بين الجالية العربية الإسلامية.
إن هذه الدعوات تتأتى إستقراءً لاتجاهات التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فمستلزمات العمل في مؤهلاته ومهاراته ومعارفه تتعقد يوماً بعد يوم بسبب التطورات التكنولوجية السريعة وما يسمى عولمة الاقتصاد الدولي وبالتالي حصر أعمال الإدارة والتخطيط والأبحاث والتطوير في البلدان الغربية المتقدمة علمياً وتكنولوجياً ونقل مراكز الإنتاج والتسويق إلى بلدان أخرى.
يضاف إلى ذلك تنامي ما يسمى صراع الثقافات في عناصره الروحية والقومية والاجتماعية وهو أمر يدعو للقلق والخوف على ذوبان واضمحلال الهوية الإسلامية العربية لهؤلاء العرب المسلمين المقيمين في البلدان الغربية ومنها ألمانيا.
وأخيراً فإن التطورات السياسية الدولية في الآونة الأخيرة – لا سيما بعد إنهيار الكتلة الشيوعية – وحرب الخليج الثانية ومحاولات فرض ما يسمى النظام العالمي الجديد في ضوء موازين القوى الدولية الجديدة والذي تشكل الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية حجر الزاوية فيه في قيمها وثقافاتها وهيمنتها على وسائل الإعلام والاتصال قد أحدثت آثارها الواضحة في سياسات جميع الدول الغربية ومنها ألمانيا تجاه بقية دول العالم الأخرى ومنها مجتمعاتنا العربية الإسلامية.
من هنا يكون لزاماً علينا نحن العرب المسلمين الاستعداد لهذه الحالة الجديدة والتحصن أزاءها بالوعي الواقعي والتمسك بمبادىء الانتماء الروحي والقومي الذي لم يزل يلعب دوراً أساسياً في سياسات الدول الأخرى تجاهنا. ولا أريد بملاحظتي الأخيرة هذه بث حالة من العدائية الغوغائية ضد الشعوب والأمم الأخرى، بل أردت التنويه إلى مسألة واقعية في الحسابات السياسية ينبغي التعامل معها بوعيٍ وتفهم وتعاون إنساني مثمر.
المحور الثالث:
طبيعة مشاكل العرب المسلمين في ألمانيا اجتماعياً وتربوياًً وروحيا:ً
في البدء لابد من الإشارة إلى أن هذه المشاكل متداخلة ومتفاعلة مع الظروف القانونية والسياسية التي سبق الحديث عنها. وهذه المشاكل هي أكبرها على الإطلاق. وهي مشاكل تنجم في أساسها بسبب اختلاف القيم والأخلاق التربوية لمجتمعين مختلفين في ذلك. يضاف إليها ما يترتب على تلك القيم والأخلاق من تشريعات تتعلق بالأسرة في تحديد حقوق وواجبات وعلاقات أعضائها. فالآباء العرب المسلمون تحكم نظراتهم التربوية إلى هذا الحد أو ذاك قيم وأخلاق إسلامية عربية. والأطفال – لاسيما الذين يولدون في هذا البلد في بيئته ومع أطفاله ويذهبون إلى دور رياض الأطفال والمدارس الألمانية ويشاهدون تلفازهم وبالتالي يتلقون بوعي أو لا وعي مفاهيم وأخلاق هذا المجتمع يعيشون مجتمعين مختلفين في كثير من المفاهيم والأعراف والقيم وطريقة التفكير والتعامل، لا بل وحتى آداب الطعام والمائدة وغيرها من أمور الحياة. إن هذه المسالة جديرة بالدراسة والمتابعة لآثارها البعيدة على جيل الغد من العرب والمسلمين المقيمين في البلدان الأجنبية ومنها ألمانيا.
يضاف إلى ذلك أن كثيراً من العوائل العربية المسلمة لا تحرص على إرسال أبنائها إلى مراكز تعليم اللغة العربية والتربية الدينية لكي تساهم هذه المراكز في تنمية لغة تربوية واجتماعية مشتركة بين الآباء والأبناء.
وإذا كان الآباء والأمهات العرب المسلمون يستطيعون إلى هذا الحد أو ذاك أن يوجهوا أبناءهم وبناتهم حسب الصورة التي يرتأونها إلى أعمار معينة فإن ذلك يبدأ بالتغير مع بلوغ هؤلاء الأبناء والبنات سن المراهقة حيث تبرز غالباً مظاهر الصراع التربوي وما يؤول إليه من نتائج تربوية تختلف غالباً عن الصورة العربية الإسلامية. فمع هذه السن تبدأ مشاكل جديدة أثر التغيرات الجسمانية والنفسية ورغبات تأكيد الرجولة عند الصبيان والأنوثة عند الفتيات وبسبب تنامي مدارك ومعارف الأبناء ووعيهم المتأثر بالبيئة التي يعيشون فيها ومناهج التعليم وظروف الاختلاط فيه وحدود الحريات الشخصية المسموح بها والمشجعة من قبل طرق ووسائل التعليم والتربية المعمول بها في ألمانيا والمناسبة بالطبع لأخلاقيات وقيم ومفاهيم هذا المجتمع. يضاف إلى ذلك تأثير التلفزة الألمانية وحتى العربية الموجهة إلى أوروبا والتي يمكن استقبالها في ألمانيا كذلك.
كما تجدر الإشارة إلى حالات انفصام اجتماعي تعيشه عائلات عربية مسلمة، وعدم وجود لغة مشتركة بين الأباء والأبناء لما أشرت إليه من المشاكل التربوية والظروف الخاصة.
أما العوائل المختلطة، وأعني بها أن يكون رب الأسرة عربياً مسلماً وتكون زوجته ألمانية ، فأن الحالة لا تخلو من مشاكل تربوية أخرى حيث تؤدي في أكثر الحالات إلى أن يعيش الأبناء والبنات كأقرانهم من الألمان.
وتلعب دور الشباب والاسرة الحكومية دوراً في الحد من السلطات التربوية للوالدين، حيث يصل الحد أحياناً إلى أن تعمل هذه الدوائر على التوصية بسحب حق التربية من الأب أو الأم وتولي ذلك، حيث يرسلون بالولد أو البنت إلى دور الشباب عندما تحصل لديهم القناعة بأن هناك ضغوطاً تمارس على الولد أو البنت أو تقصيراً تربوياً من شأنه التأثير على شخصية هؤلاء الشباب وتجاوز حقوقهم.
أن الأسئلة التي تطرح نفسها في هذا المجال هي: كيف يجب أن نتعامل تربوياً مع أبنائنا في هذا المجتمع؟ هل نتركهم يعيشون كما يعيش أمثالهم من الألمان؟ هل نفرض عليهم أن يعيشوا حياة عربية إسلامية؟ هل نتساهل معهم في هذا الشأن أو ذاك، وما هي حدود ذلك وشؤونه؟
قد يكون من السهل الإجابة نظرياً عن هذه الأسئلة من منطلق معين. لكن الواقع لا يؤيد أيٍ من هذه الإجابات.
أن ترك الأبناء يعيشون كما يعيش أمثالهم الألمان يتطلب استعداداً خلقياً ونفسياً واجتماعياً لا يستطيعه ولا يقبل به كثير من الأباء والأمهات بسهولة ورضى، حيث يتنافى ذلك وما هم فيه من أخلاقيات وقيم عربية إسلامية. وإذا كان البعض يغض النظر عن ذلك في ما يخص أولاده فأنه لا يستطيع ذلك مخيراً بالنسبة لفتياته.
أما البديل الثاني والمتمثل بوجوب عيش العائلة في قيمٍ إسلامية وسلوك ملتزم فلا يستطيع عليه أو يقبل به سوى القلة القليلة من أبناء الجالية العربية المسلمة.
إنني أرى أن التربية السليمة تتطلب وعياً ودراية بواقع حال ومشاكل الأبناء في البيت والمدرسة والمجتمع والتعاون مع مراكز وجمعيات تتفهم طبيعة مثل هذه المشاكل وتتوفر لها إمكانات المساهمة في الحد منها وتخفيفها من خلال ما تقوم به من التوعية والإرشاد المستمرين سواء للأباء أو الأبناء وكذلك من خلال ما تقدمه من نشاطات ترفيهية وتعليمية وثقافية.
وأكتفي بهذا القدر من مشاكل عيش العرب من مسلمين في ألمانيا وأنتقل إلى المحور الأخير والمتعلق بصورة مستقبل هذه الجالية.
المحور الرابع :
ما هو مستقبل حياة العرب المسلمين في ألمانيا، وكيف تبدو صورة ذلك المستقبل اجتماعياً وحضارياً؟
إن إستقراءً عاماً لما ذكرته من ظروف ومشاكل لحياة العرب المسلمين في ألمانيا يدعوني للقول – وبإختصار شديد – إن صورة هذا المستقبل ستبقى مرهونة بالآتي من الأمور:
أولاً: موضوع دوافع الهجرة من الأوطان وحوافزها في هذا البلد. هل يأتي اليوم الذي لم يعد يرغب العرب المسلمون فيه بترك أوطانهم ولم تعد تؤثر فيهم مغريات الهجرة؟ متى وكيف السبيل الى ذلك؟
ثانياً : دور الجمعيات والمراكز العربية الإسلامية في إدامة شعور وقيم وثقافة الانتماء العربي الإسلامي في إطار التعايش الواعي والحضاري في المجتمع الألماني.
ثالثاً : دور البلدان العربية الإسلامية ومنظماتها الدولية في الحفاظ على هوية هذه الجالية والعمل على استمرار تواصلها الروحي والثقافي والاقتصادي.
وأود بهذا أن أنهي حديثي عن بعض مشاكل العرب المسلمين الذين يعيشون في ألمانيا مع أمنيتي أن أكون قد وفقت في إلقاء الضوء على بعض جوانب موضوع البحث وأن أكون قد ساهمت في طرح موضوع يحظى باهتمام الآخرين المهتمين بمثل هذه المسائل.
برلين 1998
*حيث أن غالبية العرب المقيمين في ألمانيا هم من المسلمين جاء تركيز البحث حول المسلمين من العرب
أحدث التعليقات