د. نزار محمود
مدير المعهد الثقافي العربي
عندما نتحدث عن موضوعة “وحدة الجالية العربية” تنتابنا هواجس حالمة من ناحية، ومشاعر مريرة من ناحية أخرى. هواجس حالمة لما يمكن أن تحققه هذه الوحدة في أشكال تنسيق مواقفها السياسية العامة وتعاونها في معالجة الكثير الكثير من الجوانب الحياتية لأبناء الجاليات العربية من اقتصادية واجتماعية وثقافية وتعليمية وتربوية وسلوكية وغيرها. أما المشاعر المؤلمة فتتمثل بالدرجة الأساس في فشل المحاولات العديدة التي لم تنته إلى أحلامها في هذه المهمة الصعبة.
اننا نؤمن بأننا عندما نتحدث في موضوعة “وحدة الجالية العربية” أننا لا نتحدث عن وهم، رغم الاحباطات الكثيرة التي ختمت نهايات العديد من المحاولات. بل على العكس من ذلك فإن كثرة المحاولات، رغم فشلها، هي تعبير عن الرغبة في تحقيق مثل هذه الأمنية، وعن القناعة في امكانية بلوغ ذلك الهدف.
نتميز، نحن أبناء العالم العربي في الخارج، ومنها ألمانيا،، بخصوصيات اقليمية ومناطقية واقعية،لا مجال هنا للحديث عن أسبابها السياسية والتأريخية المعروفة عند الكثيرين، تساهم في تعقيد مسألة توحيد عمل الجالية العربية، إلى الدرجة التي قد تستوجب الانطلاق في التعامل معها على أساس أنها جاليات عربية وليست جالية عربية واحدة. كما تشكل مسألة أبناء العالم العربي من القوميات غير العربية، والتي ينبغي التعامل معها بكل الوطنية والإنسانية والنظرة الحضارية، وكذلك التيارات والانتماءات والارتباطات السياسية والأمنية والتفاوت الكبير في المستويات الثقافية والعلمية بين أبناء هذه الجالية أو الجاليات العربية أهم أسباب عدم التجانس ووحدة العمل.
في استطلاع محدود للرأي حول أسباب عدم نجاح محاولات سابقة لتوحيد أو تنسيق عمل الجالية العربية جاءت نتائج الاستطلاع لتؤيد في غالبيتها الأسباب التالية:
– لأن الجالية العربية غير متجانسة في تركيبتها ووعيها ومصالحها
– لأن الجالية العربية غير متشابهة في ظروفها وأولويات اهتماماتها
– لأن الجالية العربية لا تمتلك إمكانات توحيد عملها إدارياً وتنظيمياً
– لأن المحاولات السابقة لتوحيد الجالية العربية لم تكن واقعية في أهدافها
– لأن الصيغ الإدارية والتنظيمية للمحاولات السابقة لم تكن ملائمة وكفوءة
– لعدم وجود أهداف ومفاهيم ورؤى واضحة لجالية عربية موحدة
– لأن السفارات العربية لا تساهم في توحيد الجالية العربية
– لأن هناك شخصيات وتجمعات ومحاور تسعى لتحقيق أهدافها الخاصة من شخصية وسياسية واجتماعية وأمنية من خلال العمل الجماعي للجالية العربية
– لأن أغلب فعاليات الجالية العربية تطغى فيها لغة الخطابة والحماس والعاطفة والارتجالية والتسرع واللاوعي على لغة الحوار العلمية والعملية
وانطلاقاً من إيمان راسخ بالأهداف النبيلة لمثل هذا العمل واستخلاصاً لأسباب عدم نجاح المحاولات السابقة يمكن تلخيص وتبويب أهم الشروط الموضوعية التي تساعد، حسب رأينا، على قيام ونجاح أي عمل توحيدي أو تنسيقي للجاليات العربية:
أولاً: مجموعة الشروط الموضوعية المتعلقة بتحديد الأهداف السياسية ذات الخصوصية لعمل أية هيئة أو تشكيل تمثيلي أو تنسيقي تأخذ في حساباتها المعطيات الواقعية للجاليات العربية وتجمعاتها وظروف الحياة في إجمالي تأثيراتها على هذه الجالية.
إن الطيف السياسي،مثلاً، الذي تشكله جاليات العالم العربي والمتباين بصورة حادة ما بين يسارية ويمينية، علمانية ودينية، وسطية وسلفية، قومية وإقليمية، سنية وشيعية، وغيرها من ألوان التباين والاختلاف، يقتضي أن تعبر الأهداف السياسية وأساليب ولغة تحقيقها عن قواسم مشتركة تتسم بالواقعية والتوافقية والمرونة التي تساعد على إدامة الحوار والتنسيق مع التجمعات والمؤسسات العربية من جهة، وكذلك مع المؤسسات الألمانية ذات العلاقة والهيئات الدبلوماسية العربية من جهة أخرى دون تبعية لهذا الطرف أو ذاك.
ثانياً: مجموعة الشروط الموضوعية التي تتعلق بوجوب أن يشتمل عمل هذا التمثيل أو التنسيق على إجمالي الجوانب الحياتية لأبناء جاليات العالم العربي ومصالحها من ثقافية واجتماعية وتعليمية ومهنية. إن نظرة سريعة في الأنظمة الداخلية لأكثر المؤسسات العربية ونشاطاتها ومشكلات أعضائها ومراجعيها وظروف عملها يكشف عن أهمية شمولية وواقعية عمل أي تشكيل يسعى لتنسيق أو تمثيل الجاليات العربية.
إن مهمة العمل التنسيقي أو التمثيلي لأي هيئة للجالية العربية يجب أن تنصب على التعامل الاجمالي لمشكلات ودور هذه الجالية وفق العلاقة الجدلية في أشكالية الاندماج والحفاظ على الهوية. إن الاندماج الذي نراه يجب أن يكون إندماجاً إنسانياً وايجابياً وفاعلاً في مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية ليكون لنا دوراً وتأثيراً في المجتمع الألماني. كما ان مهمة الحفاظ على الهوية بأبعادها الإنسانية والحضارية والواقعية يجب أن تكون دائمة الحضور في روح أي عمل تنسيقي أو تمثيلي للجالية العربية. إن الاندماج المحافظ على الهوية، والهوية القابلة للأندماج، بالمفاهيم الذي ذهبنا إليها، يجب أن تكون محط أهتمام كبير.
ثالثاً: مجموعة الشروط الموضوعية المتعلقة بالدعوة وتأسيس وإدارة أي عمل تنسيقي أو تمثيلي للجاليات العربية.
فالدعوة الصادقة والشاملة لكل المعنيين الواعين والمؤمنين بأهمية وضرورة وحدة العمل العربي من مؤسسات وتجمعات وشخصيات من أبناء العالم العربي، والإعداد الجيد للقاء في وضوح أهدافه وأسلوب إدارته ولغة حواره وديمقراطيته الواعية وتدوين نتائجه ومتابعتها تشكل بمجموعها الخطوة الأولى لبدء أي عمل جماعي منسق.
أما الخطوة الثانية التي تلي عملية اللقاء الحواري الأول الإيجابي فهي عملية التحضير لتأسيس هيئة التنسيق أو التمثيل لعمل الجاليات العربية. حيث تتولى مجموعة من ذوي الإيمان والخبرة، وربما الاختصاص، وبأسلوب حواري ومسؤول مستفيدة من تجارب الماضي، إعداد مسودة أو مسودات بدائل العمل التنسيقي أو التمثيلي في أهدافه ومهامه وصيغه ونظامه وتمثيله وحدود علاقاته وإدارته وتمويله. بعدها يتم عرض مسودات العمل على ممثلين عن الأطراف الراغبة والعازمة على إنجاح أهداف هذا العمل والتشاور معهم.
أما الخطوة الثالثة فتتمثل بدعوة هذه المجموعة أو اللجنة التحضيرية بالدعوة لمؤتمر تأسيسي يضم ممثلين عن الأطراف الراغبة والعازمة على الاشتراك في إنجاح هدف مشروع المؤتمر. تسبق الدعوة عملية إرسال اللجنة بمسودات نتائج أعمالها المكلفة بها إلى أطراف المؤتمر لغرض دراستها وإبداء رأيها كتابياً بها خلال مدة أسبوعين مثلاً، من أجل دراسة الملاحظات وتضمينها المقترحات النهائية للجنة التحضيرية وتقريرها أمام أعضاء المؤتمر.
وتبقى الخطوة الأخيرة في هذه المرحلة أهم خطوة في تأسيس أي تشكيل تمثيلي أو تنسيقي وهي انعقاد المؤتمر التأسيسي الذي ينبغي أن يتقرر خلاله تشكيل الكيان التنسيقي أو التمثيلي للجالية العربية بأهدافه وصيغته وتشكيلاته. وتشكل مسائل تحديد عضوية المؤتمر وصيغة التصويت وموضوعيتها، وتحديد الصيغة القانونية للتشكيل، وموارد التمويل وشغل الهيئات الإدارية، أصعب المسائل في عملية نجاح المؤتمر.
وفي بداية انعقاد المؤتمر يجري اختيار هيئة مؤقتة لإدارة المؤتمر من ذوي الخبرة والكفاءة في إدارة الاجتماعات والانتخابات، ومن ثم اختيار رئيساً لها، حيث سيكون من أهم مهام اللجنة هو إقرار جدول أعمال المؤتمر وشروط عضوية المؤتمر ونظام التصويت والانتخابات ونظام سير أعمال المؤتمر.
وبتشكيل هيئة إدارة المؤتمر وعرض التقرير النهائي عن أعمالها تنتهي أعمال اللجنة التحضيرية.
وكما سبقت الإشارة فإن من أولى وأصعب مهمات هيئة إدارة المؤتمر هي مسألة عضوية المؤتمر التأسيسي وصيغة التصويت على قراراته التي ستحدد الأسس القانونية والإدارية للتشكيل التمثيلي أو التنسيقي لعمل الجالية العربية، لا سيما وأن هناك ما يقارب من 15 عشر جالية عربية وأكثر من أربعين تجمع عربي.
ففي مسألة عضوية المؤتمر فإن هناك من يرى حصر عضوية المؤتمر بمعدل ممثل واحد عن كل تجمع عربي مسجل. وهناك من يرتأي أخذ حجم أو نشاط التجمعات العربية بعين الاعتبار في حجم تمثيلها. وثالث يرى أن هناك شخصيات لا تنتسب إلى تجمعات عربية مسجلة، لكنها لعبت وربما لا زالت تلعب دوراً مهماً في العمل العربي. فريق رابع يذهب إلى إمكانية أن تكون عضوية المؤتمر لكل عربي يجد في نفسه الرغبة أو الاستعداد أو الكفاءة للمساهمة في مثل هذا العمل العربي بغض النظر عن انتسابه أو عدم انتسابه لأي تجمع عربي. آخرون يرون أنه يجب أن تكون هناك بعض الضوابط والشروط في عضوية المؤتمر الذي سيشكل الأساس في عمل التشكيل التمثيلي أو التنسيقي.
ومن الواضح أن لكل من هذه البدائل ( وربما لغيرها) ما يبرره سواء من الناحية النظرية أو العملية. وتبقى مسألة اختيار البديل الأفضل عملية لا يمكن الاتفاق عليها بالإجماع. حيث يقع على عاتق اللجنة التحضيرية وجميع الذين سيشاركون في المؤتمر المسؤولية العملية والأخلاقية في وجوب الاتفاق على إحدى الصيغ من أجل البدء بتأسيس تشكيل للعمل العربي.
إن حل هذه الأشكالية يجب أن تجري مناقشته في أجواء يسودها روح الشعور بالمسؤولية والأنا الجماعية دون الاستسلام للرغبات الذاتية والنظرات قصيرة النظر. أذكر أنني، وفي أحد اللقاءات مع أخوة من جمعيات عربية حول ذات الموضوع، أوضحت عن رأي، أعترف أنه نظري ومثالي، مفاده أنني أستطيع أن أتصور مكتباً تنسيقياً للجالية العربية مشكلاً فقط من لبنانين أو مصريين أو فلسطينيين، مثلاً، طالما أن هؤلاء الأعضاء يمتلكون من روح العمل لمصلحة الجالية العربية، وأنهم الأكفأ والأكثر استعداداً لمثل هذا العمل.
وفي موضوع التصويت في المؤتمر تبرز معالجة الجوانب التالية:
– أحقية التصويت وعدد الأصوات (وهي مسألة ترتبط بإشكالية التمثيل في المؤتمر)
– أسلوب التصويت، علني أم سري
– الإشراف على التصويت
أما موضوع شغل مهام الهيئات الإدارية والتي تناولتها أعمال اللجنة التحضيرية المستأنسة بملاحظات التجمعات والشخصيات العربية فانه يجب أن يقره المؤتمر وأن يتم وفق ضوابط موضوعية واضحة تتعلق بالاستعداد الشخصي والمؤهلات المطلوبة لإنجاز المهام. ومن الطبيعي أن توجد هناك صيغ لاختيار أعضاء الهيئات الإدارية. فبعد أن يقر المؤتمر مسألة تشكيل هيئة تنفيذية، كأن تكون المكتب التنفيذي أو اللجنة التنفيذية أو الهيئة الإدارية، كتشكيل تنظيمي محدد المهام والمسؤوليات والصلاحيات والعلاقات، يجري عملية اختيار شاغليها. هناك الترشيح الشخصي المباشر للراغبين، وهناك الأسلوب غير المباشر وذلك عن طريق اقتراح آخرين لمرشحين سواء علنياً أم سرياً، حيث يجري بعد ذلك سؤال المرشحين حول قبولهم للترشيح. وفي كلتا الحالتين ينبغي أن يجري تعريف شخصي بالمرشحين، وأن يكون المرشح على استعداد للإجابة عن أسئلة واستفسارات أعضاء المؤتمر قدر تعلق الأمر بمتطلبات المهمة.
ولابد لي من الإشارة إلى أنني أفضل التصويت السري على جميع القرارات التي سيتخذها المؤتمر لأسباب موضوعية وعملية وبناء على تجارب طويلة.
إن نجاح المؤتمر في حل المسائل التي أشرنا لها وإقراره للصيغ النهائية للتشكيل التنسيقي أو التمثيلي في أهدافه ومهامه ونظامه وهيئات إدارته وتمويله رهين بالآتي من الشروط الموضوعية:
– ايمان المؤتمرين بجدوى العمل العربي الموحد وعزمهم على إنجاح إيجاد آلياته
– الابتعاد عن الطروحات اللاواقعية والجدل السفسطائي العقيم واحترام الزمن وأحكامه في العمل
– تسامي المؤتمرين عن طموحاتهم الذاتية ووجهات نظرهم التي لا تخدم مهمة البدء بتشكيل هيئات
التنسيق والتوحيد في عمل الجاليات العربية
– التمسك بالاعتبارات والمقاييس الموضوعية عند اختيار المكلفين بمهام إدارة هيئات التنسيق
والتوحيد في عمل الجاليات العربية
وتبقى مهمة اختيار الصيغة القانونية لهذا التشكيل مسألة مهمة تنعكس بآثارها على الأنماط الإدارية ومصادر تمويل هذه الهيئة.
وبعد أن يتم إقرار النظام الداخلي، الذي سيتضمن أهداف هذا التشكيل ومهامه وتشكيلاته الإدارية وميكانيكيات عمله ومصادر تمويله واستخداماته، وانتخاب مكتبه أو لجنته التنفيذية المخولة بتمثيله، تتخذ إجراءات التسجيل القانونية لهذا التشكيل التمثيلي أو التنسيقي في عمل الجالية العربية لدى المحكمة المختصة عبر كاتب عدل معتمد.
رابعاً: مجموعة الشروط الموضوعية في التعامل مع الأطراف ذات العلاقة بعمل هيئة العمل التنسيقي أو التمثيلي العربي، ومنها:
– التجمعات العربية من جاليات وجمعيات، والتي ينبغي أن تكون واضحة ومتفاعلة حوارياً واستشارياً دون محاولات إملائية أو تسلطية أو تدخل في شؤونها الداخلية.
– الهيئات الدبلوماسية العربية من سفارات عربية وبعثة الجامعة العربية ومجلس السفراء العرب، والتي ينبغي أن تقوم على قدر عال من التقدير والمسؤولية والواقعية، والابتعاد عن محاولات إلغاء دورها والتشكيك غير المبرر فيه في دعم هيئات العمل التنسيقي أو التمثيلي في إطار الحفاظ الواعي على إطار اللاتبعية لهذه الهيئات.
– المؤسسات والسلطات الألمانية، والتي ينبغي التعامل معها بوعي وواقعية، ووفاء وإصالة.
إننا نأمل بهذا أن نكون قد ساهمنا في إلقاء المزيد من الضوء على الشروط الموضوعية لنجاح وحدة عمل الجالية العربية.
برلين، 2005.02.03
أحدث التعليقات